للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم أقبلتْ وجهها السماءَ ومدّت بيديها تدعو: "اللهمَّ إني قد سلَّمته لأمرك فيه ورضيتُ بما قضيتَ له، فأثبني في عبد الله ثوابَ الشاكرين الصابرين. اللهمّ ارحم طولَ ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبرَّهُ بأبيه وبي".

ووجم الناس وجمةً واحدةً، وخشعوا خشعةً لكأن السماءَ والأرض صارتا رتقًا فما يتنفسُ من تنفّس إلا من تحتِ الهم والجهد والبلاء. وكأنّ مكة بيتٌ قد غُلِّقتْ عليه أبوابهُ لا ينفُذُ إليه أحد ولا يبرحه أحد. وكأن الناس قد نزعت أرواحهم وقامت أبدانهم وشخصت أبصارهم، وبدت أسماءُ بينهم وكأن وجهها سراج قد نُصّ على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد (١)، وأضاء ثغرها عن ابتسامة. والله لقد بلغتْ من العمر وما سقطت لها سنٌّ، ومازال ثغرها ترف غروبه (٢) ثم قالت: "يا بَنيَّ، لشد ما أحببتم الحياة وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه. يا بني يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيرًا".

وأطرقت أسماءُ إطراقةً ثم رفعت رأسها تُومِئُ إلى الخشبة، فوالله لقد رعدت فرائصى حتى تَزَايلتْ أوْصالى، وصَرَّ الناسُ كأنما تقصفت أصلابُهم (٣)، وإذا هي تقول: "أَلَا مَنْ مُبلغ الحجّاج أن المُثْلَة سبّة للحىّ وما تضرّ الميّت. ألا مَنْ يبلِغ الحباجَ عنِّي أن الشَّاةَ إذا ذُبحَتْ لم تألم السلْخ".

وحامتْ أسماءُ وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يُرَى إلّا بريق وجهها يومِضُ كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردّد "يا بَني، أمَا آن لهذا الراكبِ أن ينزل؟ أما آن لهذا الراكب أن ينزل! يا بَني ليستأذنْ أحدُكم حَجَّاجَكمُ هذا أن يَدفَع إلي هذه العظام. أَدوا عني، يرحم الله من أَدَّى عنِّي".

فيجئ الرسول من قِبل الحجاج يأبى عليها أن تُدفَعَ إليها عظَامُ ابنها


(١) الخوالد هنا: بمعنى الساكنة كالجبال والحجارة والصخور.
(٢) الغروب: جمع غرب، وهو الماء على الأسنان يكسبها بَرِيقا.
(٣) صر: صدر عنهم صوتا كالصرير، وجاءت هذه العبارة في شعر العطوى:
وليس صريرُ النَّعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلابُ قَوْم تَقَصَّفُ