هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين كأنما نرى معجزة تحققها أيدى مردة من الجن ليسوا من الإِنس في أصل ولا نسب. إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزًا وهلعًا واستكانة.
ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة ليعرف كيف يعمل. إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة، تقف على هذه الأرض موقفًا ظاهرًا لمن يتأمل. هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملأها حديدًا ونارًا وضجيجًا في الأرض وصخبًا طائرًا في السماء. والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدة مهيأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مُقْعِيَة (١) متربصة تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها.
إن المدنية الأوربية المحدثة، في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية، ودفعتها إلى زيادة التسلّح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كل ما يمس الاستعداد الحربي، ولا شك في أن هذه الإِرادة وحدها مع الإِسراع في تنفيذها، سوف تؤدى حتما إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشر جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوه وجه الإِنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلا في العالمين.
ولو أن هذا الاستعداد الحربى العظيم، كان نتيجةً للدفاع عن مبادئ
(١) أَقْعَى الكلبُ: جلس على مؤخرته مُفْتَرِشا رجليْه وناصِبا يديه.