للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها، لقلنا عسى أن تنتفع الإِنسانيةُ بانهزام الباطل وانتصار الحق، وإن ضَحَّت في سبيل ذلك بالملايين من البشر الذين تأكلهم هذه الحرب الضروس، ولكان ثمَّة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإِصلاح تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به. ولكن الواقع غير ذلك.

فإن الحرب الحديثة المقبلة. . .، إنما هي بغْى. لقد بغي بعضهم على بعض في العلم، فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضَرَرَ العلم أكبر من نفعه، وأن الشقاء قرينٌ لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإِرادة، وردهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض. . .!

هذه أوربَّا التي نفضتْ على كلمة "الحرية" من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإِبداع، وزخارف الحضارة -حتى بدتْ فتنةً يتهاوى في فتونها كل غاو وحليم- تثبتُ للناس أن "الحرية" كلمة ضامرة ضعيفة لا معنى لها، ولا حياة فيها، ولعل التاريخ كله لم يشهدْ عصرًا ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة، مع كثرة دورانها على الألسنة، مثل الذي شهده في هذا العصر. ففي كلّ ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السر وحرية العلن، وعلى حرية الرأي وحرية الضمير. في فرنسا -باعثة هذه الفتنة في أوربا- في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كل بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبد به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربى، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة "الحرية".

إن كل عمل، بل كل رأي، بل كل فكر، بل كل شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها، في العلم والفن والأدب وفي كل