فإذا خيل لهذا الطالب -بعد طول العمر في دراسة الكتب الكبيرة- أنه مستطيع أن يشرح النظام الفلكى بالحساب الهندسى، أو أن يبنى دارًا بما تلقف من ألوان هذا العلم، وقع من حيث طار مرة، أو انهدم عليه ما أقامه مرة أخرى، وهكذا أمر كل العلوم والفنون لا يشذ واحد منها عن القاعدة التي تقررها فطرة العلوم والفنون.
والأدب والشعر والفلسفة وسائر العلوم النفسية والعقلية التي يخيل لبعض الناس إنها ملك للجميع من كل صاحب عقل وصاحب نفس لا تخرج عن هذه القاعدة التي تطالبنا بتقريرها فطرة العلوم والفنون. فأيما أديب أو كاتب أو شاعر أو ناقد أو متفلسف يقتحم بابا من هذه الأبواب غير متسلح بالبراعة في أصول الفن الذي يرمى بنفسه فيه، فهو إلى إهلاك نفسه أدخل، وإلى إضاعة وقته أسرع، وبالغرور سار حيث سار، وإني قد رأيت أكثر من يقذف نفسه في فن من هذه الفنون يقول: إذا كان مرد الشعر والأدب والكتابة والنقد وما إليها -هو إلى الطبع والسليقة وصفاء النفس ورقة الشعور، فما جدوى أن نقيم الدنيا ونقعدها من أجل أشياء لا تنفع ولا تشفع؟ وأي فائدة -بعد أن يجتمع للأديب والشاعر هذا كله- في أن يرهق نفسه بالدراية والثقافة والبحث والدأب، ولعله أن يكون بعيدًا عن هذا كله أقدر على العبارة عن ضمير نفسه؟ ولعله إذا أقبل على هذه الأشياء بالدرس والتثقيف كان ذلك أسرع في إفساد طبعه، ومجمجة سليقته، وتكدير نفسه ومَحْق شعوره! ! ولقد أخطأ هؤلاء من حيث أرادوا الإصابة في التقدير.
فإن أصل العلم كله من أدب وفن وعلم إنما هو النفس والطبع والشعور، ولولا هذه لما كان في الدنيا علم، ولكن النفس لا تكتفي بأن تكون كل أعمالها صادرة عنها وحدها، بل إن الاجتماع الإنساني يضطرها أن تكون أبدًا متأهبة للتلقى كما هي مريدة للإذاعة، وأن تكون راغبة في مشاركة الآخرين في تأملاتهم كما هي متشوقة للانفراد بتأملاتها. وهذا يدل على أن النفس إذا انفردت لم تؤد أعمالها إلا ناقصة معيبة، لأن تمام أعمالها في المشاركة.
وكأنى بابن خلدون قد رام هذا المعنى إذ قال في مقدمته الجليلة، حين