عرض لذكر "علم الأدب": "هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارض أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنثور والمنظوم على أساليب العرب ومناحيهم". ثم عد ابن خلدون أشياء لا قيمة لها في تحقيق معنى الأدب. وأنت ترى أن عبارته التي نقلناها مبهمة "غامضة" لأنه لم يجر إلى شرحها والبيان عنها، ولكنه بعد أن تقدم في كلامه وضع التفسير لهذه العبارة من حيث لم يرد، ولكنه أفسد التفسير بالتعليق عليه، وذلك قوله:
"ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف". فالأخذ من كل علم بطرف أصل عظيم للأديب، لأنه هو المعبر عن نفسه التي تريد أن تعبر عن النفس الإنسانية العامة التي يشترك في الاستمداد منها سائر البشر.
ومادامت كل العلوم في أصلها صادرة عن النفس فلابد للأديب من معرفة الأحوال التي تعرض لهذه النفوس فتوجهها إلى استجلاء الغامض الذي به وبإرادته وطلبه كانت هذه العلوم علوما.
وأخذ الأديب بطرف من هذه العلوم لابد أن يكون على طريقة الأديب لا على طريقة العالم، فإن الأديب ينفذ بنفسه وروحه فيما يقرأ من ذلك، ليحس ويستشعر نبض النفس الإنسانية الكبيرة في إنتاج هذه العلوم. وأما العالم فإنه يريد أن يستوعب في نفسه النبض العلمي الذي يجرى عليه التحقيق والنقد فيها وبأسلوبها وعلى هديها.
ولكن ابن خلدون أفسد معنى هذه العبارة بشرحه إذ قال بعد ذلك:"يريدون (الأخذ بطرف) من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب".
ولاشك أن هذه بعض ما يجب على الأديب أن ينال منه، وخاصة القرآن والحديث، فعليه أن يعب منهما عبًّا، لأنهما نهاية الإعجاز الإلهي والبشرى في التعبير وفي المعاني وهما النظام الخلقى العام للبشر، وكلاهما يخاطب أول ما يخاطب النفس الصافية ويمسها ويتغلغل فيها ويهزها ويملؤها ريا ونعمة وحياة.