للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ومنصفة كانت أو باغية، وأن نأخذها من حيث نرى الرأي أنه هو أجدى وأنفع، وأيضا فإن المصدر الحىّ للأدب إنما هو النفس، فهو يصدر عنها موسومًا بسمتها، إمّا مستقرة هادئة مفكرة في جو من الراحة، وإما ثائرة لمّاحة متخطفة في مسبح الأحلام والآلام والأماني المعذبة بالحرمان، فليس إذن من المُنْكَر أن ينصب امرؤ لا تهدأ نفسه لمثل هذا الباب الذي وصفناه وأن يتناول هذا الأدب بما يتداولُه من الإحساس المشبوب والنظر الخاطف والرأي العنيف أو أي ذلك كان. وأحب أن أعهد قبل أن نكلم، فإني رأيت الأدباء قد أكل بعضهم بعضًا بألسنة كظهر المبرد، وتشاحنوا بينهم للكلمة التي لا ترفع ولا تضع، وتنابذوا على الأهواء الغالبة المستكلبة، ومن كان ذلك هجيراه (١) ودأبهُ، فهو عند النقد أو الاعتراض كالوَحش الجوع (٢) الغرثانِ قد أُجْهِض عن أشلاء فريسته، يكاد يَنْقَد عليه إهابُه من الغيظ والحِقد والرغبة في الإيقاع بمن يصرفه عن أحلام مَعِدته. وهذا أسوأ الخلق وأبعده عن صريح نهج الأدب، وأقله غناءً في تهذيب الأديب، وما أظن أن في الدنيا العاقلة أديبا تخيّل له أوهام "العبقرية" الطائفة به أنه قد سبق السهو والخطأ وبقى النقد والنقاد لَقًى وراءه يتلوذون بظلاله -في طلب البركة! ومع ذلك فإن بعض من عناه القدر فرمى في غيل الأدب العربي يتصيد، . . . . يقتات من أوهام العبقرية حتى حبط بوهمه في نفسه، واستكرش ونفش بما أكل حتى تضلَّع، ثم استلقى على الأفياء يتخيَّل أن الأدب كله قد وقف عليه من عند قدمه إلى رأسه يُهدهده حتى ينام في ظلال هذا الملك الهنئ. ومن كان هذا مثاله من الأدباء، وعرضنا لبعض قوله بالنقد، فلا يتخيلن أنَا نعنيه هو بذاته- فهو موفور الأحلام على نفسه إن شاء الله -وإنما نعرض للقول على أنه كلام مقول فيه السهو والخطأ، وتتعاوره الصحة كما يتعاوره السقم، وأنه كلامٌ مصبوبٌ على الناس وعلى أسماعهم وأذهانهم، فنحن بنقدنا كلامه، إياهم نريد، وإياهم


(١) الهجيرَي والدَّأب والعادةُ بمعنى.
(٢) جوّع: هكذا في الأصول، وهو جمع لا مفرد، والسياق يقتضي الإفراد، والغرثان والجائع سواء.