للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

نخاطب، وعسى بعدُ أن يكون له في هدأةٍ من نفسه رأيٌ يتابعنا به إن أصبنا أو يسدِّدنا ببيانه إن أخطأنا، وما نألو في الاجتهاد، ولكن ربما حُرم الإنسان التوفيق فيما يأتي وما يذر.

هذه واحدة فيما نبدأ به، أما ما يقع بين الأدباء من المجادلات والمنافرات، فحقها من هذا الباب التسجيل، فإن بقى لنا في القول مقال نقوله -نتعقب به الأصل الذي يقع عليه الاختلاف والتنافُر- لم نقصر في تحقيق البيان وتحريره، متعاونين في جعل الحقيقة أسرع إلى إثبات وجودها والدلالة على نفسها حتى تتجلى.

وأما الشعر والشعراء وما يلوذ بهما، فأنا حين أغمض عيني لأجمع على خيالي ورأيي وفكري، أنتهي إلى مثل الغيبوبة من الحسرة واللهفة والألم. فقد فرغ الشعر من بيانه ومعارضه وصاريته الفاتنة، ووقع إلينا أوزانا تَتخلَّج بما تحمِلُ تَخلج المجنون في الأرض الوحلة، وما أظنه يعتصم في هذه الأيام بشاعرين أو ثلاثة، ولكل منهم مذهب، وكل قد قذفت به الحياة في مهنتها وابتذالها حتى صار أكثر فراغه مستهلكا على صناعة أو وظيفة تطعمه العيش وتحرمه لذته، ومع ذلك فيهم يقولون ويتكلمون والسامعون ينصرفون عنهم لسوء رأيهم في الشعر الحاضر أول، ثم لكثرة ما يسمعون من كلام لا يحرك عاطفة لأنه لا يصدر عن عاطفة، وما يزال ذلك يتوالى عليهم، حتى إنهم لا يكادون يعرفون الشعر إلا هكذا ثقيلًا غثًّا باردًا، فكيف لا ينصرفون عنه، ومن ذا الذي يرضى أن يحمِل نفسه إلى "ثلاجة" وهو يُعَد في العقلاء. فكذلك ضاع شعر هؤلاء الثلاثة في غثاثة الكثرة، ثم فترت أنفسهم ولا تزال تفتر -إلا أن يشاء الله- لما يحسون من غفله السامعين عنهم، وليس كلهم يستطيع أن يقول كما قال صاحبهم الأول:

لم يَبقَ من جُل هذا الناس باقيةٌ ... ينالها الفهمُ إلّا هذه الصُّوَرُ

أهزُّ بالشعر أقوامًا ذوى وَسَن ... في الجهل، لو ضُربوا بالسيف ما شعروا

علىَّ نَحتُ القوافي من مَقَاطِعها ... وما عليَّ لَهم أن تَفْهَم البَقَر

وكذلك نخشى أن يأتي على الناس زمان يضيع فيه الشعر الجيد أو يرفع حتى