ذهبت في السماء، ولا يخلط بينهما إلا مخادع أو مفتون أو من عمى فلم يبصر الذي فوق والذي تحت.
إن جماعة الجماهير التي تقرأ والتي تسمع والتي تفهم، لا تفهم من الفوضى إلا ذلك الاضطراب المتداعى الذي لا يستقر فيه شيء على حال، ولا يمكن أن يستقر على حال، والذي لا يعرف أصولا مقررة بينة يتهاوى إليه بقوته وإرادته إلى غاية بعينها، فالفوضى الاجتماعية هي الحال التي إذا وضعت إصبعها في سرارة الجماعة ووسطها جعلت فيها كمثل الزلزلة المخبولة الطائشة الباغية بقوتها وجبروتها، إذا أصابت الجبل فهدته، فما كان فيه قمة لم يلبث أن يكون مطمورا تحت الحصى الذي كان يلوذ بالجبل كما يلوذ الذليل بمن أذله واحتكم عليه. فهذه حال لا يكون فيها الجبل جبلا ولا ينتظر أن يكون مرة ثانية.
أما الصراع الاجتماعي فهو ذلك الجذب الهائل بين القوى المتكاثفة من الخير والشر والخطأ والصواب والعلم والجهل كلها قد احتشد للظفر والغلبة فيخيل للجاهل المفتون إذا رأى تداخل هذه الجيوش المتحاربة وتحاطم أسنتها في قتالها، وما يصيب ميدانها من الكَرّ والفر والإقبال والإدبار وما سوى ذلك من أعمال القتال والمناجزة -يخيل لهذا الجاهل أن الأمر فوضى واضطراب، وما هو به، إن هو إلا طبيعة الحرب، التي يراد بها الظفر ولا تكون الحرب إلا كذلك. وما اختلاط الدنيا وموج الناس إلا تنظيم القوى وتلاقيها، فليس بين هذا وبين الفوضى إلا شبه يتخيله من ينظر إلى السطح دون الأعماق، ويطلب عرض الباطل دون جوهر الحق، وهذا النظر حاله غالبة على من به ضعف كضعف القط حين يتنمر أو يستأسد، وما هو إلا نتيجة الفوضى التي تقع في أعصاب مريضة متهالكة من منبعها إلى مصبها، فلذلك لا يكون الرأي لها إلا كذلك.
إن الفوضى الاجتماعية إنما تعقب عصور القوة الحاكمة المتسلطة، وذلك إذا بدأت تنهار بعد الاستكانة إلى غرور هذه القوة وهذا السلطان، وإذا انهار السلطان الاجتماعي القوى كانت الفوضى بتمامها وبأدق معانيها، وتعيش الأمة بعد ذلك في فوضى أي في ضعف مستمر ليس له حاجز يلجأ إليه، أو ليس له من