للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والعرب سمت هذه الحالة التي تعرض للألفاظ في سمع السامع وفهمه، وكلام المتكلم وبيانه، اسما خاصا أرادت به تعميم هذا المذهب في كلامها. ولولا أن البلغاء -أعنى أصحاب علم البلاغة- قد حجروا ما وسع أصحاب اللغة والبيان العربي، لكان لهذا الباب مذهب آخر غير المذهب الذي درج عليه أئمتنا رضوان الله عليهم في دراسة هذا الباب من العلم.

وهذه الحالة التي ذكرناها هي المعروفة في علم البلاغة "بالمجاز". فالمجاز في اللغة هو الطريق، وسموه كذلك لأن اللفظ اللغوى يجوز من معناه الأصلى على طريق ومذهب إلى معنى آخر يتهافت إليه أو يتعلق به أو يهوى في بعض هواه. وهذا المجاز الذي يجوزه اللفظ ينضبط ويتقرر على أصول نفسية محصنة (١)، هي التي ترتاد للفظ سبيله الى المعاني التي يمت إليها أو يمتد معناه فيها. والمجاز هو أصل البيان كله، والبيان هو أصل الأدب، والأدب قائم من ناحية أخرى على الفكرة الأدبية، فمن هنا ترى أن المجاز في اللفظ والفكرة الأدبية هما الشريكان المترافدان اللذان ينشئان الأدب ويجعلانه شيئا خالدا من الفن المتكلم الصامت.

وإذا سقط أحد هذين من مذهب الأديب تساقط معه أدبه وتهافت، وإذا بقي أحدهما سابقا والآخر متخلفا كان ذلك مطعنا يغمز منه أدبه أو مقتلا يلقي من قبله حتفه، وكذلك تعلم أن لابد من تقاود الفكر واللفظ في البيان الأدبى حتى لتجد كأنهما يتسابقان يقود أحدهما الآخر إلى غايته، فلا تسلم صفة القيادة لواحد منهما دون الآخر، فإذا تم ذلك تم المعنى الأدبى البيانى الكامل في أدب الأديب، وتم له الخلود الدائم في التاريخ الأدبى والبيان اللسانى الذي تتكون من أشيائه ثروة اللغة.

وإذا صح لديك -وهو لا شك صحيح- أن الأديب لا تجتمع لأدبه مادته إلا من الحياة اليومية التي تؤثر في فكره أشد التأثير، وتحمله على توليد المعاني الأدبية من معاناة الحياة ومداورتها ومقاساتها على لينها وشدتها، وأنه أشد الناس تأثرا وإحساسا بالأحداث الإنسانية والطبيعية كلها، وأن هذا الإحساس وهذا التأثر هما


(١) كذا بالأصل, وظنى بها: مَحْضَة.