للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسكتوا وأطبقوا أفواههم، وخَنَسُوا في جِحَر (١) الحياة المظلمة التي تخاف النور وتعشى ببرقه، وتخشى فواضحه التي تكشف الضعف وتميز للناس الخبيث من الطيب.

إن هذه السكتة التي خاطت شفاه الثرثارين -كانوا- بخيط الرعب والفزع والحرص على شهوات العيش، قد أضرت بمصر بل بالشرق ضررا نرجو أن لا يتلاحق أوله بآخره. نعم أنهم كانوا لعهدهم فيما مضى قد اتخذوا عقول الناس مطايا لما يشتهون، فارتحلوها وركبوها بالشهرة والصيت ونبوغ الاسم، فلما جاء يومهم يوم الجد والحزم، وأن ينزلوا عن مراكبهم هذه ليترنَّموا بالحداء والغناء والنشيد، فيبعثوا قلوبا حرة تستهدف للبلاء بإيمان وصبر وعزة وإرادة: استكانوا وهوَّموا (٢) وأخذتهم نعسة الخوف، فارتاحوا بها واطمأنوا لها، ورضوا بالحياة كما تقبل عليهم بعد ثورة وصخب وجَعْجَعَة من رأي وكلام.

إن سبيل التجديد الذي يطلب التاريخ منا أن نمتهدها ونسلكها، قد انشقت لنا أوائلها وصدورها، وقد بطل العذر وستموت المعاذير في المستقبل، فلم يبق إلا الإقدام وحده، ولم يبق إلا تجريد القوة الكامنة في أنفس الناس. فإذا أمكننا أن نبدأ وأن نتحرر في البدء مما يعوقنا من الخوف، وما يقطعنا من الحرص، وما يقف بنا من الجزع -أمكننا أن ندير الأيام على مدار ينتهي بنا إلى الغرض الذي نرمى إليه.

فالصراع العالمى الدائر بين القوى الفكرية والأدبية والسياسية والحربية، قد مهد السبيل لكل عامل أن يعمل، وأعطى النائمين نصيبًا من اليقظة، وكسر عن المقيدين بعض القيود التي كانت تعض على كل جارحة. فالعمل واليقظة والحركة في هذا الأوان كفيلة بأن تورث الشعوب -إذا أحسنت حق استعمالها- قوة ومضاء وعزمًا، لا ينثنى شيء منها لما يعترضه من الحوائل التي أوجبت بعض


(١) خنس: تراجع وارتد. وجِحَر: جمع جِحْرَة.
(٢) هوَّم: تملكه النعاس، فسقط رأسه فوق صدره.