إنه ليس من المعقول أن تحدث هذه الأحداث فجأة، متوافقة في ترتيب الحدوث، بغير تدبير سابق. فإذا خفي التدبير، وعجز صاحب الرأي عن تفسير الغرض من حدوثه، فليس معنى ذلك أنه ليس تدبيرا مبيتا وأنه جاء فجأة متلاحقا لغير غرض محدود. إن صريح العقل يوجب على كل ذي عقل أن يرتاب، وأن يجعل الريبة مقرونة إلى الاستعمار وأعوان الاستعمار وأن يرى وراء هذه الأحداث شيئا واحدا، هو المستعمر نفسه. ويقتضينا صريح العقل أن ننسى الأحداث نفسها، لنذكر غاصب بلادنا، والمعتدى على حريتنا، ثم نعمل على بث الريبة في كل نفس وكل فكر، فلا نضيع أيامنا وليالينا في النزاع على أحداث لا معنى لها. إلا أن الاستعمار قد نجح في أن يشغلنا عن نفسه بأنفسنا، وفي أن يذكرنا بهذه التوافه الصاخبة، لننسى القارعة الكبرى، وهي وجوده في صور مختلفة عميقة في حياتنا بالليل والنهار.
من الغفلة أن تصطخب الأصوات، ويصطرخ المتنازعون في الدستور وغير الدستور، وفي المذاهب وغير المذاهب، وفي رفع مستوى المعيشة وغير المعيشة، وفي أخطاء وزراء الاستعمار وغير وزراء الاستعمار، ويظل اسم بريطانيا وأمريكا وروسيا وفرنسا وهولاندة وأسبانيا ضميرا غير مذكور، ومنسيا غير معروف، وغائبا غير مشهود. إن الحياة لا تعاش بالأوهام، وإنما يعيشها من أراد أن يعيش بالإرادة الصادقة، وبالرأي الصريح، وبالهدف البين، وبالحق الذي لا يتجزأ، وبالمشقة التي توهن البدن وتستهلك القُوَى. فإذا أردنا الحياة، فإنما حياتنا أن نعرف العار الذي ألبسنا ذلة الاستعمار، فلا ننام حتى ننفض عنا الذل، بإعلان العداوة لعدونا الواحد الذي يتسمى بأسماء كثيرة في هذه الأقاليم المتراحبة من تخوم الصين إلى حدود المغرب الأقصى.
اذكروا اسم عدوكم، فإن نسيانه جريمة. واعرفوا عمل عدوكم فإن جهله هو الذل، وحرضوا أنفسكم على أن تقاتلوه بالليل والنهار، في تفكيركم وأعمالكم، وفي بيوتكم وشوارعكم وفي كل شيء من أشياء الحياة له فيها أثر ظاهر أو رسم خفي. لا تنسو، فإن النسيان هو الهلاك. . . .