فهي فيما ينبغي لنا أن نعرفه، دولة واحدة. ومهما تفرقنا نحن في الأرض التي خضعت لهم، فينبغي أن نكون عداوة واحدة لهذه الدولة، الواحدة الحقيقية، المختلفة الأسماء. والحضارة التي قامت في هذه الدول، نبعت فعلا من نفس الأخلاق التي جعلت الاستعمار كما وصفناه طاغيا باغيا شرها خسيس الغرض، لئيم الطبع، جريئا على إهدار الكرامة الإنسانية. فينبغي إذن أن نعاديها بنفس الأسلوب الذي نعادى به الاستعمار. وإذا ظن أصحاب هذه الحضارة أن حضارتهم ينبغي أن تشمل الأرض جميعا، بالأساليب التي يتبعونها في بثها، لتكون لهم ثمرة جهود العبيد الذين تستعبدهم لخدمتها فعلينا نحن أن نستيقن أن كرامة الإنسان لا يمكن أن تهدر، وإن إنشاء الحضارات شيء قائم في طبيعة الجنس البشرى، قد أوتى القدرة عليه منذ وجد على الأرض بلا أداة، ولا علوم، وبلا فنون، وبلا صناعات. ومن الجهل أن نعتقد أن الجنس البشرى يتقدم أو يترقى بهذه الحضارة، في حين نراه قد انقسم هذا الانقسام الشنيع إلى: طاغ ومحطم، إلى: ظالم ومظلوم، إلى: آكل ومأكول، إلى: حي يستأثر، وهالك يستغيث. ولن يضيرنا شيئا أن نعادى هذه الحضارة، لأننا بالفطرة قادرون على إنشاء حضارة أفضل منها، إذا أقمنا عداوتنا على الأصل الصحيح، وهو بغض الفساد، وحب الإصلاح، وكراهة الشر وإلف الخير، وتحقيق معاني ذلك كله في حياتنا كلها بالليل والنهار، في بيوتنا وشوارعنا، في معاملاتنا وخصوماتنا، في صغير أمورنا وكبيره، غير غافلين ولا متهاونين ولا متعجلين أيضا، فعندئذ سوف ينبثق على هذه الأرض نور جديد يمحو هذه الظلمات الباغية التي أطبقت على العالم، وسنكون نحن هداة هؤلاء -الذين عاديناهم- إلى طريق صحيح، يعرفون به كرامتهم، لأنهم عرفوا للناس كرامتهم، ويهتدون إلى السكينة التي فقدوها في عالمهم هذا، لأنهم سوف يعرفون أن للحياة معنى أكبر من معنى الاستئثار والغلبة والترف.
ولن نبلغ هذا المبلغ إلا بأن نبنى أعمال حياتنا على غير ما بنيت عليه أعمال حياتهم، ولو اتخذنا نفس أساليبهم، ونفس أفكارهم، ونفس أضغانهم على