حقًا إن مثل هذا العلم الفذ لحقيق أن يصرف الجهابذة الغالي والنفيس من
جهدهم ووقتهم لالتقاط الدرر التي جمعها في عشرات السنوات، وبعضها شبه نوادر، فيسمعونها منه في مجالس محدودة، وهكذا -تالله- فعلوا، فقد ملأ البخاري منه صحيحه الذي هو أصح كتاب في الدنيا بعد كتاب الله وضرب إليه أئمة عصره أكباد الإبل من كل الجهات، أمثال أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وأبي داود السجستاني ويعقوب بن شيبة البصري، ويعقوب بن سفيان الفسوي، وأحمد بن عبد الله العجلي، ومحمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، وغيرهم كثير.
وبما أن المادة العلمية التي سجلها الأئمة عن حياة هذا الإمام قليلة، فقد كان المذكورون من تلاميذه لا يعطون صورة حقيقية في الكم، وإن كانوا يمثلون صورة الكيف، ولكي أكون قريبًا من الحقيقة، استمع للإمام العجلي وهو يقول في تاريخ الثقات (١): كان يملي علَى حتى أضجر، فيقول لي: يا أبا الحسن اكتب هذا الحديث فأكتبه، فيملي علي بعد ضجري خمسين، ستين حديثًا، فأتيته في رحلتي الثانية، فأصبت عليه زحامًا كثيرًا، فقلت: قد أخذت بحظي منك. اهـ.
ولو أردنا أن نأخذ نماذج من هؤلاء التلاميذ لنعرف من يكونون، لأن في ذلك إشارة إلى مقام هذا الإمام ولو لم تكن هذه القاعدة مطردة، فهي أغلبية، لا سيما في مثل البخاري، ومثل أبي زرعة، والذي عرف عنه أنه لا يحدث إلَاّ عن ثقة- كما سيأتي عند ح (١٤) -.
أما البخاري فجمهور المسلمين لا يجهلونه، بل شهرته مثل الأئمة الأربعة أو أشهر، وكذا أبو داود السجستاني صاحب السنن لا يبعد عنه.