وحسب، بل أيضًا لأنى منذ آمنت بأن الله وحده لا شريك له، وأنه أرسل إلى الناس رسولا يبين لهم طريق الهدى من طريق الضلال، علمت أن هذا البلاغ الَّذي هو القرآن، وهو الحق، لم يكره أحدا على الإيمان؛ لأن الإكراه والسيطرة خليقة أن تدعو الناس إلى المراوغة، والمراوغة مفسدة للحياة البشرية؛ ومتلفة للعقل الإنساني -ومن أجل ذلك نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن ارتكاب طريق الإكراه والسيطرة، فقال له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، وقال له، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، ثم زاد فأمره أن يدع الناس أحرارا في اختيار طريق الإيمان وطريق الكفر فقال:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، كل ذلك كان طريقا مستقيما ومنهجا متبعا، لأن سلامة الحياة الإنسانية، وسلامة العقل؛ وسلامة النفس؛ لا تنال ولا تدرك إلا بالوضوح: وضوح اللفظ، ووضوح الرؤية، ووضوح التعبير، ووضوح المعاني، ووضوح الطريق، وبهذا وحده فارقت حضارة أهل الإسلام سائر الحضارات؛ ما سبق منها وما أتى بعدها. ومن أجل ذلك كان الأسلوب الَّذي أبان عنه الدكتور زكي كريها إلى نفسي. وكنت أتمنى، بعد هذا العمر الطويل، أن يكون كريها أيضًا إلى نفس صديقي الدكتور زكي، مهما لقى في سبيل ذلك من عنت، ومن وجع الرأس والدماغ. وعلى كل، فهذا موقف لا أحبه له ولا أرضاه.
* * *
موقف ثان، فيه نفس السمات؛ سمات الإبهام والغموض؛ بلا داع يدعو إلى ذلك، فأنا حين قرأت كتابه الأول "تجديد الفكر العربي" وفرغت منه، أحسست، (ولا أدري كيف! ) أنَّه كتبه وفي نفسه مرارة مؤذية من شيء لقيه في حياته. وبهذه المرارة أطلق أحكاما قاطعة على "أسلاف" هذه الأمة، فهو يقول مثلا (التجديد ص: ٥٩ وما بعدها): "إني إذ أقرن ما أطالعه من حكايات الخرافة الساذجة عند أسلافنا، وخصوصا في عصور ضعفهم، بما أسمعه بأذنى من حكايات الخرافة يرويها بعض رجال العلم فينا اليوم؛ تأخذنى الدهشة العميقة: