للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولكن هذا فيه كل الغضاضة أن يقول في (المعقول واللامعقول: ص: ٢٨): "وأنى لأقرر عن نفسي أنى حين هممت بهذه الرحلة (أي رحلة المسافر الغريب في أرض غريبة، كما يقول في ص: ١٠، ١٦) في دنيا تراثنا الفكرى، لم أجعل غايتى تقويم التراث، ومن أكون أنا حتَّى أجيز لنفسي مثل هذا التقويم، لتراث كان بالفعل أساسا لحضارة شهد لها التاريخ؟ لكني جعلت غايتى شيئًا آخر، أظن من حقى إذا أردته، وهو البحث في تراثنا الفكرى عما يجوز لعصرنا الحاضر أن يعيده إلى الحياة، ليكون بين مقومات عيشه، ومكونات وجهة نظره. وبهذا يرتبط الحاضر بذلك الجزء من الماضي الَّذي يصلح للدخول في النسيج الحي لعصرنا الَّذي يحتوينا راضين به أو مرغمين".

ومع كل هذه الصراحة المحمودة، فقارئ الكتابين ينتهي إلى شيء واحد، هو أن كاتبهما لم يفعل شيئًا سوى أن نصب نفسه مقوما لجميع ما سماه "التراث"، رافضا لأكثره، قابلا لشيء قليل جدا منه. فهو يقول مثلا في (تجديد الفكر العربي: ٢٩٤ - ٢٩٩):

"إني لأنظر فأرى سلسلة الخصائص التي يراد لها أن تقتلع من جذورها من تربتنا الثقافية، قبل أن يتاح لنا استنبات زرع جديد، إنما تترابط حلقاتها، فإذا سلمت بالأولى، كان لزاما أن تسلم بالثانية فالثالثة فالرابعة. وأولى هذه الحلقات، وأعمقها جذورا، وأكثرها فروعا، هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق؛ لين الواقع والمثال؛ بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول -هذه كلها ظلال من موقف واحد وحقيقة واحدة. ونظرة العربي في صميمها هي أن السماء قد أمرت، وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط، وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدى ثابت، وعلى الواقع أن يقسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا تعارضت الدنيا والآخرة؛ كانت الآخرة أحق بالاختيار؛ وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول. . . ." ثم يمضي في احتجاجه حتَّى يقول: "جذور ينبغي أن تقتلع من أصولها، إذا أردنا للمواطن العربي أن يولد من جديد، فإذا خلت التربة من هذه الشوائب، بذرنا بذورا أخرى لتُنْبِت نبتا آخر".