للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وهذا كله كلام محفوف بالغموض، وبالإشارات المبهمة لشيء مبهم، إنه هو نفس الأسلوب الَّذي اختاره الصديق الكريم: "اجتنابا لوجع الرأس والدماغ". وأنا لا أحب أن "أنزع معانيه من بين السطور". كما أمر، ولكن أقل التأمل يدل دلالة واضحة على أنَّه قد قوم "أصل التراث" كله تقويما لا مرية فيه، فوجده غير صالح. بل هو أيضًا مضر بالتربة، فقضى أن يقتلع من جذوره، لأنه "أعمقها جذورا، وأكثرها فروعًا"، وإذن: فما معنى تواضعه الخادع؛ حين استنكر أن يكون قد أجاز لنفسه تقويم التراث؟ هذا طريق محفوف بالخطر، وهو أيضًا موقف غير لائق.

وموقف رابع: ذلك أن الدكتور زكي أستاذ متميز في الفلسفة، والمذهب الذي يتبعه مذهب قائم على تحليل الألفاظ والقضايا، وهو قد لقى العنت والظلم في سبيل مذهبه. وقد كان حريصا في مواضع من كتابه المذكورين أن يحلل بعض الألفاظ ويحددها على الوجه الَّذي يريده. من ذلك لفظ "العقل" (تجديد الفكر العربي: ٣٠٨ وما بعدها)، فإنه قال: "وأول التوضيح أن نبين في جلاء ماذا نريد بقولنا "عقل"؟ فلا يجدينا شيئًا أن نقذف بهذه الكلمات المحورية قذفا، لنبنى عليها أقوالا على أقوال، كأنما هي من الوضوح بحيث لا يسأل عن تحديدها، مع أنَّه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟ ". فهذا التزام صريح بالمذهب.

بل إنه في الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول: ١٥٩، ١٦٠)، كان أشد التزاما بالمذهب، فإنه تناول الجاحظ في فصل مهم جدا، أحسن في أكثره، فجعل يتنقل بنا من موضع إلى موضع في كتب الجاحظ: حتَّى انتهى إلى رسالته "في الجد والهزل". فاتفق أن جاء في هذه الرسالة معنى كان الدكتور زكي قد استعمل له نفس اللفظ الَّذي استعمله الجاحظ. وذلك أن صديقي الدكتور زكي كان قد شبه بعض الألفاظ التي يتداولها الناس "بالظرف الخالى"؛ وهي ألفاظ يظن الناس أنهم قد فهموا دلالتها، مع أنها إذا حللها الفيلسوف ليرى ما في جوفها، إذا هي فارغة. وكان الجاحظ قد ذكر أمر آدم عليه وعلى نبينا السلام،