للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويدل الكتاب والعلماء على الأصل المغصوب كتابة موثقة منشورة، فلا يبالى الساطى بشيء من ذلك كله: بل يزداد جرأة وتيها وادعاء واستعلاء واستطالة، كأن الذي قيل عن سطوه لم يُقَل، وكأن ظهور سطوه فضيلة ترفع من قدره تنوه به في المجامع، أما أنا، مع أسفي واعتذارى، فلم أزل أعد هذا المسلك احتقارا للناس أي احتقار، وإزراء بهم وبعقولهم أي إزراء، وإنزالًا لهم منزلة من لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل ولا يحس. هكذا نظرى أنا، كان، ولم يزل إلى هذا الأمر. هذه هي "القضية" كانت، ولم تزل، حية في نفسي منذ خمسين سنة: (وانظر كتابي المتنبي ١: ٢٥).

وقبل أن أحدثك بخبر هذه "القضية" وأنا في الجامعة سنة ١٩٢٦، أجدنى مضطرا أن أخبرك بشيء كان قبل ذلك، يجعل "القضية" أوضح وأبين. كنت في سنة ١٩٢٣، وسنة ١٩٢٤، أقرأ على شيخى سيد بن على المرصفي إمام العربية في زماننا، وهو شيخ الدكتور طه أيضا. وكنت في ذلك الوقت أقرأ ما كان يكتبه الدكتور طه في صحيفة السياسة، وهو "حديث الأربعاء"، فجاء يوما على لساني وأنا عند الشيخ ذكر الدكتور طه، فعرفت من الشيخ أنه كان يقرأ عليه بعض ما كنا نقرأه عليه. وبهذا النسب القريب، كما يقول أبو تمام (١)، تاقت نفسي إلى معرفة الدكتور طه. فسعيت إليه سعيا، وعرفته من يومئذ عن قرب. كنت صغيرا، وكان هو في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، ومع هذا التفاوت في السن: فقد قربنى الرجل إليه حتى اطمأن قلبي وانطلق لساني، فبجرأة الشباب كنت أخالفه أحيانا كثيرة فيما يكتب، وبجهل الشباب أيضا أحاوره وأجادله بقليل علمي. وكان بينًا عندي، وعنده أيضا، أن مقالاته في "حديث الأربعاء" كانت تنطوى على "استلهام" شديد مفرط من آراء طائفة الأعاجم المستشرقين، على حد تعبيرك أنت أيها العزيز، أو على "استعارة" منهم مغرقة ملتهمة، على حد


(١) وذلك في قوله:
أو يَخْتَلِفْ نَسبٌ يؤلفْ يَيننا ... أدَبٌ أقمناهُ مقامَ الوالِد