الجهل! وإني لأسأل نفسي اليوم: أبجهل مني لا حلم فيه، كان يومئذ للفظ "الجامعة" هذا المعنى في نفسي أخالنى لست أدري، بعد طول التجريب وبعد المشيب. ولكن هكذا كان، واحسرتاه! "أم كان شيئا كان، ثم انقضى"، كما يقول العرجى.
دخلت الجامعة ومعي هذا المعنى يتسع ويتراحب يوما بعد يوم، حتى بلغ مبلغا يرتد عنه البصر خاسئا وهو حسير. دخلتها ومعى فورة الشباب وأحلامه وتهاويله. دخلتها ومعى كل ما قرأته وسمعته من أدب أمتى وتاريخها وأخلاق علمائها وعظمة رجالها. . . والآن أقول لك ما لم يكن يخطر لي يومئذ على بال: دخلتها ومعى أيضا "متن مرجليوث" في "مسألة الشعر الجاهلي" مطروحا في قرارة يم النسيان. ألقيت بكل سمعى مصغيا إلى أستاذنا الدكتور طه، وهيبة الأستاذية تملأ قلبي وهو يردد كلماته، وأنا واقع أيضا في أسر كلماته، ولكني في الأسر كنت أعرف وأنكر، وينبسط قلبي وينقبض، ثم يوما بعد يوم. وبغتة، ومن قرارة يم النسيان، طفا "متن مرجليوث" كتابا مفتوحا، اقرأ "المتن" بعيني، وأسمع "الحاشية على المتن" بأذنى، وأخذنى ما أخذنى من الحيرة والدهشة والارتياح، ثم انقشع عني الظلام. . .
فأصبحتُ والغولُ لي جارة، ... فيا جارتا، أنتِ، ما أَهْولَا!
"والغول لي جارة"، ليست رمزا ولا مجازا بل كانت عندي حقيقة (١) مفزعة، تدخل معى قاعة المحاضرات يوما بعد يوم، وكل يوم أقول لنفسي عسى، ولعل! وأتوقع أن يذكر الدكتور طه، اسم مرجليوث مرة، وينسب إلى الرجل رأيه في "مسألة الشعر الجاهلي"، مجرد إشارة! وذهب توقعى باطلا هذرا. لم أسمع منه إلا:"انتهى بي البحث"، ثم "انتهى بي البحث"، ثم "انتهى بي البحث" وإذا كل شيء منه هو يبدأ، وإليه هو ينتهي! كيف يكون هذا، "والمتن" أمامى أقرؤه بعينين مبصرتين، وكل شيء يقوله الدكتور طه من هذا "المتن" وحده يبدأ، وإلى "المتن" وحده ينتهي، يا لحيرتى وعجبى!
(١) كما كانت عند تَأبط شرا، صاحب البيت الذي استشهد به الأستاذ شاكر.