أوثق معرفة. استمع الرجل إلى وكان وديعا طيب النفس، فبعد لأي قَبل أن يُعِيننى، وأخذت عليه العهد أن لا يخبر أحدا من أهلى بما عزمت عليه. ورحت أسعى سعيا حثيثا حتى استخرجت شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية، بعد دفع رسوم "البدلية"، كما كانوا يسمونها. وأعانني الشيخ فوزان حتى استخرجت جواز سفر بعد جهد جهيد. فلما وضعت الجواز في جيبى واطمأن قلبي، ذهبت إلى أبي -رحمه الله- فكاشفته بجلية أمرى .. لم تأخذه دهشة المُنْكِر، خيل إلي أنه كان يعرف! ظللت أياما بين يديه، يحاورنى ويحاول أن يقنعني بالإقلاع عما عزمت عليه. لا هو يقتنع بما أقول وبما أمنى النفس به مختالا ولا أنا أقتنع بما يقول، وأخيرا ذكر لي بيت النابغة الذي مر آنفا:
ولا تَذْهب بحِلْمكَ طامِياتٌ ... من الخُيلاء ليس لهن بابُ
وقال: ستجد الأبواب مغلقة دون أمانيك بالضبة والمفتاح وستعود إلينا، بعد أن تضيق كما ذهبت، فافعل ما تشاء. وأَلْقَى حَبلى على غاربى، ووافق على سفرى، وبدأت أعد العدة وجمعت جميع كتبى وعبأتها. ولكن من الطريف أنى أقصيت منها جميع كتب الدكتور طه، وهبتها لصديق لي -رحمه الله- .. فلم أكد استقر في مدينة جدة بالحجاز، وهدأت نفسي، حتى عدت فاشتريتها جميعا من مكاتب جدة. كان سخفا مني، ولكن هكذا كان! !
وذات يوم في الصباح الباكر دخل على زميلى وصديقي الأستاذ محمد الخضيرى، يستطلع أمر غيبتى عن الجامعة. وكان قد سأل عني مرات بالهاتف ولم يجدنى. فلما جلس، أفضيت إليه بالأمر كله، ففزع قائما، وكاد يبكى. فلما أخبرته بجميع ما في نفسي، أطرق وسكن، وبقى قليلا ثم انصرف. وفي العشية فوجئت بمقدم الأستاذ نلينو، ولكن هدوءه وبشاشته وهو يسألنى عن أبي كعادته كما جاء يزوره نفت الشك عن قلبي. فأخبرت أبي بمجيئه. فلما التقيا وجلسا، فوجئت بالأستاذ يتكلم ويذكرنى وصوته يتهدج ويتقطع من الغضب والأسف، فرجف قلبي رجفة وقمت من فورى ذاهبا على وجهي أحث الخطى، من دارنا في الحلمية الجديدة، ولم أنتبه إلا والمؤذن يوذن لصلاة المغرب، من