للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

١٤٣". وكنت أنوى في ختامها أن أثير "قضية السطو على أعمال الناس برمتها، لأن أمرها كان قد استشرى في ذلك الوقت، وإلى اليوم، بين أسوار الجامعة وخارج الأسوار".

بعد أيام، منذ كففت، اتصل بي الأستاذ نلينو مرات بالهاتف: يسأل عن أبي، وكان مريضا، ويسأل عني فلم يجدنى. كانت وفاة الرافعي -رحمه الله-، وهو أستاذى وصديقي، قد بلغت مني، فنسيت نلينو أو تناسيته -وبينما أنا أفارق محطة مترو مصر الجديدة، وكانت في شارع عماد الدين يومئذ، لقيت نلينو وجها لوجه، وتصافحنا وسرنا حتى جزنا الزحام إلى الرصيف الهادئ، فابتدرنى قائلا: قرأت كتابك ثم مقالاتك في صحيفه البلاغ. ثم ضحك كعادته حتى استغرب (١) وقال: لم تتغير أنت، ولم يتغير الدكتور طه، (يعني ما كان من أمرى وأمره في الجامعة). ثم قال: إنه سألنى عنك مرات، وهو يحب أن يراك، فواجب عليك أن تزوره، قلت: نَعَمْ، ونِعْمَة عَيْن (٢)، وسوف أفعل إن شاء الله. ولم يذكر كتاب الدكتور طه بكلمة، فسألته: وهل قرأت كتابه؟ قال: نعم. قلت له: فما رأيك إذن؟ وكنت أعني رأيه فيما كتبته أنا في صحيفة البلاغ، إلا أنه فاجأنى قائلا: كان ينبغي للدكتور طه أن يحتفظ به في درج مكتبه بضع سنوات، وهو يعيد النظر فيه، ثم ينشره بعد ذلك. قنعت بهذا، وسرنا نتحادث حتى افترقنا. ولكني لم أف بما وعدته به من زيارة الدكتور طه.

ومضت ثلاث سنوات أو أكثر، وفي يولية سنة ١٩٤٠، دق جرس الهاتف، وإذا المتحدث هو الدكتور طه نفسه، فعاتبنى عتابا مُرا على انقطاعى عنه، ثم حدثني عن مقالة كان قرأها قبل أيام في الرسالة، كتبتها بعنوان: "ويلك آمن! "، وحرضنى على أن أتابع القول على هذا المنهج، ثم دعانى إلى زيارته، فزرته بعد ذلك مرات. ثم توفيت زوجة صديق لي، كان أديبا كاتبا، ومدرسا أيضا، وتركت امرأته صغارا في المهد وفوق المهد قليلا، فلم يطق من يومئذ أن يذهب


(١) استغرب: أغرق في الضحك حتى بدأت أواخر الأسنان.
(٢) أي أفعل ذلك وكرامة، وقد مر شرحه.