"أتلفت اليوم إلى ما أشفقت منه قديما من فعل "الأساتذة الكبار". لقد ذهبوا بعد أن تركوا، من حيث أرادوا أو لم يريدوا، حياة أدبية وثقافية قد فسدت فسادًا وبيلا على مدى نصف قرن، وتجددت الأساليب وتنوعت، وصار السطو على أعمال الناس أمرا مألوفا غير مستنكر، يمشي في الناس طليقا عليه طيلسان (البحث العلمي) و"عالمية الثقافة" و"الثقافة الإنسانية"، وإن لم يكن محصوله إلا ترديدا لقضايا غريبة، صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية، واختلط الحابل بالنابل. قُلْ ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت، فإنه صادق صدقا لا يتخلف. فالأديب مصور بقلم غيره، والفيلسوف مفكر بعقل سواه، والمؤرخ ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنان نابض قلبه بنبض أجنبى عن تراث فنه"، وارحمتاه! !
كذلك. . . وهذه هي القضية! ولم أزل أقول عن كتاب الدكتور طه، والأستاذ عزام، أنهما "كتابان في علم السطو" لا جَرَم! وسَمِّهما أنت بعدئذ ما شئت: "استلهاما" أو "استعارة" أو "استلالا في خفة"، أو بابا من أبواب "الاجتهاد" الذي تصورت أنى خُلِقْت لأغلقه، فالمهارة البارعة في تغيير بعض معالم المتاع المسروق أو أكثرها لا تخرجه ولا سارقه من حد السرقة.
وطال الأمد على لُبَد (١). . . ونحن لم نزل في الثالثة، فأنت أيها العزيز، تقول:"إنه من المحزن أن يبلغ بنا اللدد في الخصومة حدا يجعلنا نسلب طه حسين أخص خصائصه، ونتجاهل أجمل قدراته، ونصفه بأنه (رجل جاهل)، ليس له بصر بتذوق الشعر".
بطلت (الخصومة) آنفا، فالآن كيف؟ أنت تعرفني بلا شك، وتعرف الدكتور طه أيضا، أليس كذلك؟ فهل تتصور أنه لو كان الدكتور طه عندي (رجلا جاهلا)، هل تتصور أنى كنت أخاطبه أو أبالى به؟ لعلك قست أمرى وأمر الدكتور طه، على ما كان مني يوم حملت القلم بعد هجر له طويل،
(١) هذا مثل، وأكثر ما يروى: طال الأبَد على لبد، ولبد آخر نسور لقمان بن عاد السبعة، وكان أطولها عمرا، فضربت به العرب المثل.