الآن وقد قلت مرارا كثيرة في مقالاتى "بيني وبين طه" وغيرها أن الدكتور طه "لا بصر له بالشعر، لأن البصر بالشعر يحتاج إلى أشياء كثيرا جدا، أظن (أي استيقن هنا) أن كثيرا منها يفتقر إليه أستاذنا الدكتور طه. وهناك فروق كبيرة بين "المعرفة بالشعر"، "العلم بالشعر"، و"البصر بالشعر" فالأمر كما ترى، درجات تفرق بينها فروق ظاهرة أحيانا ودقيقة أحيانا أخرى. وهذا رأي في معرفة الدكتور طه بالشعر تستطيع أن تقول فيه أنى مخطئ، بلا ضير عليك في ذلك. وسواء كنت مخطئا أو مصيبا، فإنه لا يتيح لك البتة، أن تستخرج منه -وهو بهذا القدر من التحديد- أنى أقول أن الدكتور طه رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر بإقحام "التذوق" إقحاما يخرج عبارتى عن معناها ومرماها. وبيان ذلك أن التذوق معنى عام مجمل مشترك الدلالة بين الناس جميعا: لكل واحد منها نصيب، وهو يقل ويكثر ويعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد ولكنه على كل حال حاسة لا غنى عنها للإنسان.
وقد بينت بعض رأيي في "التذوق" في كتابي "أباطيل وأسمار"، حيث قلت:
"كل حضارة بالغة تفقد دقة التذوق، تفقد معها أسباب بقائها. والتذوق ليس قواما للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضا قوام لكل علم وصناعة، على اختلاف بابات ذلك كله، وتباين أنواعه وضروبه. كل حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها، وتبلغ تمام تكوينها: إذا لم تستقل بتذوق حساس حاد مرهف نافذ، تختص به وتنفرد، لم يكن لإرادتها في فرض وجودها معنى يُعْقَل، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضربا من التوهم والأحلام لا خير فيه. فحسن التذوق، يعني سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات. فهو (أي التذوق)، لب الحضارة وقوامها، لأنه قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارة. وهذا شيء لا يكاد يختلف فيه اثنان فيما أظن"، (أباطيل وأسمار: ٣٤).
وإذن، فلفظ "التذوق" لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب يقل أو يكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام