ولا يختلف ولا يتعدد أيضا باختلاف عمل الأفراد في الجلوس والقعود، أو بتعدد صور جلوسهم وقعودهم. والذي يقال في "ذاق الشيء ذوقا" يقال مثله في "تذوَّقْتُ الطعام أو الشراب تذوُّقا" ولا فرق، إلا أن هذه الصيغة الأخيرة تدل على تكرار عمل اللسان مرة بعد مرة، في طلب تعرف طعم المأكول أو المشروب، لا غير. هذه حقيقة معنى "الذوق والتذوق" في أصل اللسان العربي.
ثم لما نقل هذان اللفظان من مدارج الحقيقة إلى معارج المجاز، تغيرت دلالتهما تغيرا تاما. بيان ذلك: أن معنى نقلهما من الحقيقة إلى المجاز، هو صرف اللفظين عن التعلق بالجارحة وهي اللسان، وعن الأجسام التي هي المأكول والمشروب وما يجرى مجراهما = ثم توجيههما إلى التعلق بالمعاني المجردة التي لا أجسام لها أو إلى التعلق بأجسام لا عمل للسان في تبين طعومها البتة. وفي الحالين تسقط الجارحة، وهي اللسان، عن لفظ "الذوق" و"التذوق"، ويسقط أيضا "الجسم" الذي يقع عليه فعل هذه الجارحة من المأكول والمشروب عند تعلقهما بالمعاني المجردة التي لا أجسام لها. فإذا تعلقا بجسم لا عمل للسان فيه، بل كان العمل فيه لجارحة أخرى غير اللسان، اكتسب لفظ "الذوق" أو "التذوق" معنى مبهما غير محدد من فعل هذه الجارحة الأخرى في ذلك الجسم بعينه، على وجه من الحقيقة لا المجاز. وفي الحالتين جميعا يصبح فقط "الذوق" أو "التذوق"، مصدرا يدل على حدث مبهم غير معين ولا متميز. وبذلك تغيرت دلالة اللفظين تغيرا تاما، وأصبحت قابلة للوقوع على أنواع متعددة مختلفة.
فإذا قال القائل:"ذُقْتُ القوس" وهي الأداة التي يرمى بها الرامى بالسهام، فالقوس جسم، ولكنه لا يدخل في معنى شيء من الأشياء التي يحاول المرء أن يتعرف طعمها باللسان، فبديهة اللغة، وبديهة متكلميها، تُسقِط عندئذ عن لفظ "الذوق" جارحةَ الذوق، وهي اللسان، وتُكْسِبه قدرا غير محدد من فعل جارحة أخرى، وهي اليد، لأن مراد القائل بقوله:"ذقت القوس"، إنما هو ما يعمد إليه بيده من اختبار جسم القوس، من حيث خفتها وثقلها، أو خشونتها وملاستها،