للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَكَدْ، ولكني لم أكد أفارقه حتى انطرحت وحيدا، لاهثا داميا قد أثخنتنى الجراح، عند طرف منه قد أفضى بي إلى محجة واضحة المناهج بعض الوضوح. ولذلك فأنا أوثر اليوم أن أعاود السير فيه وحدي، بيني وبين نفسي لأنى أخشى أن يكون معالمه عندي قد درست وامحت، وخفي عني مدب أقدامى قديما فيه، وتهدمت بعض الصُّوَى (١) التي كنت نصبتها منارا حيث سرت، لكي أهتدى بها وأستدل على مذاهبى التي بلغت لي يومئذ طريقا قاصدا، كان لي موئلا ومفازا ونجاة وسلامة. ولذلك فأنا أخشى عليك أن تكون لي فيه صاحبا، بل كن لي مراقبا يرقب خطاى من بعيد، فإن وجدتنى قد أشرفت على تهلكة، فنادنى حتى ينقذنى من الضياع صوتك، فهذا معروف تفعله بأخيك، ليس عندي جزاؤه، ولكن عند ربك جزاؤه. وكل ما أملك أن أدعو الله أن يجنبك كل محنة كمحنتى التي بدأت أَصْلَى نارها منذ سنة ١٩٢٨.

كانت "محنة"، وكان على أن أنجو أو أهلك فيمن هلك. تناهشتنى الشكوك والريب، ووجدتنى يومئذ مخذولا لا معين لي من داخل نفسي ولا من خارج نفسي. لا عِلْمَ عندي ينصرنى، ولا كتاب أعرفه يغيثنى. غدرت بي نفسي، ونكثت عهدها الكتب، وأحاطت لي الشكوك القواصم، وأطبقت على ظلمات بعضها فوق بعض، أخرج يدي فلا أكاد أراها. وكدت ساعة أن أنفض كل شيء نفضة واحدة، ضنا بنفسي على الهلاك، وطلبا للنجاة، ولكن لاح لي في الظلمات بصيص من نور، فامتثلت للحكمة المضيئة التي جرت على لسان الشاعر الجاهلي، الحُصَين بن الحُمام المُرِيّ:

تأخرتُ أسْتبقى الحياةَ، فلم أجدْ ... حياةً لنفسي مثل أن أَتقَدَّما

فلم أبال شيئا وتقدمت، "فأما لهذا وأما لذا"، كما يقول أبو الطيب. أحسبنى قد وقعت مرة أخرى منساقا إلى رواية تاريخ قديم غَبَرَ، لا يغنى ولا ينفع، ولكن عذرى أن كلامك قد صادف قلبا محزونا فتذكر:


(١) الصوى: معالم تنصب في الطريق يهتدى بها المسافر.