للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تذكر شيئا قد مضى لسبيله، ... ومن حاجة المحزون أن يتذكرا

كما يقول النابغة الجعدى، فاعذرنى مشكورا.

كان عليّ يومئذ، فيما رأيت، أن أنبذ علما كثيرا علمته، لا نبذ استخفاف به، أو إغفال له، أو استهانة بمن علَّمنيه، بل نبذ تخوُّف عليه مما أنا مقدم عليه، وتخوف على نفسي من مغبة سطوته عليّ، وهو على كل حال حاضر عتيد (١) لا يغيب عني وضعه، إن وجدت إليه حاجة فإنه يسعفني. ومحال أن يتخلى المرء عن كل علم، فهذا غرور بالعقل والنفس موغل في الجهالة، وكذب مغموس في لجج الباطل. فلابد إذن من علم أستعين به وأهتدى، وأنا موقن بسلامته من كل آفة، فلم أجد علما يقينا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: إلا القرآن العظيم، فبه وحده اهتديت، وقصتى بعدئذ تطول وتتشعب، وتختلف فيها المسالك، وتتعدد عندي المطالب. وأخيرا وجدتنى ملتمسا مطلبا واحدا لا أستطيع أن أتجاوزه، حتى أجد في نفسي عنه بيانا شافيا أطمئن إليه. .

ما هو هذا "الكلام" الذي ميزنا الله به عن سائر خلقه وهم من حولنا صموت لا ينطقون؟ من أين يأتي؟ وكيف؟ ومم يتكون؟ وكيف يتخلق ويتصور؟ فإذا الجواب عن هذه الأسئلة مطلب مستعص على الغوص، مفض الى الحيرة، لأن حقيقته غائرة في قلب الأسرار المحجبة، أسرار "الخلق" التي لا يعلم علمها وخَبْأَها إلا الذي له وحده "الخلق والأمر" سبحانه. بيد أن "الكلام" شيء كائن بأمره كسائر ما هو كائن بأمره، فهو إذن آية كسائر آيات خلقه في السموات والأرض. فإن يك مستعصيا جواب هذه الأسئلة جوابا حاسما كاشفا عن حقيقته وأسراره، فإنه، من حيث هو آية من آيات الله، غير مستعص على التأمل والتدبر، بل هو واجب علينا أن نوفي هذه الآية حقها من التدبر والتأمل، لأنه هو سبحانه أمرنا أن نفعل حيث قال: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، فامتثالا وطاعة فعلت ما أمر الله به.


(١) عتيد: حاضر قريب.