ومنذ قليل قلت:"إن الله سبحانه حين خلق هذا الخلق، أنعم عليهم بالقدرة على "النطق"، أي "على الكلام المسموع" وأودعهم قدرة أخرى هي أجل وأعظم، وهي القدرة على "البيان" بهذا الكلام المركب عن كل ما يمكن أن يجول في أنفسهم وفي ضمائرهم. وهذا الذي يجول في الأنفس والضمائر غيب مستور لا يمكن تحديده أو تفسيره واضحا، كيف يجئ؟ وكيف يذهب؟ ". وعلى طول التأمل وجدت هاتين القدرتين توأمين لا يملكان أن يفترقا، لأن عمل الأجل الأعظم، وهو القدرة على "البيان"، معتمدا اعتمادا كاملا شاملا على أدناهما، وهو القدرة على "النطق" بالكلام المركب. ثم وجدت أيضا أنهما قدرتان متداخلتان لا سبيل إلى تمييز إحداهما من الأخرى إلا بآثارهما فيما يصدر عنهما من الكلام، أما تخليص إحداهما من الأخرى، فأمر ممتنع امتناعا حاسما على كل طامع.
وكل قدرة يملكها الإنسان، فلها في بنائه مكمن تستقر فيه، هو أداة صالحة لإظهار فعلها وعملها، كاللسان والأذن والأنف والعين واليد، والعقل أيضا على ما يكتنفه من الغموض = إلا هاتين القدرتين التوأمين المتداخلتين، فقد رأيته معجزا أن نلتمس لهما في هذا البناء الإنساني مكانا تستقران فيه، أو تنتسبان إليه انتسابا صريحا لا يشوبه تردد أو ارتياب. وفوق ذلك، فهاتان القدرتان العجيبتان الغامضتان قد انفردتا بخصائص غريبة كل الغرابة، تميزها بها عن سائر القُدَر الإنسانية. الأولى: أن لهما من خارجهما مترجم يترجم عنهما، وهو "اللسان" صاحب القدرة على "الذوق" وفاعل "الذوق"، فهو مؤد عنهما ما تفعلان، لا غير. والثانية: أن لهما من خارجهما مستقبلا يستقبل ما يؤديه عنهما "اللسان"، وهو "الأذن" صاحبة القدرة على "السمع" وفاعلته، فهي مستقبلة لما تفعلان لا غير، والثالثة: أن لهما مددا لا ينقطع يأتيهما من خارجهما، أي من جميع القوى الإنسانية المُدْرِكة المُحِسَّة، وعلى رأسها العقل والقلب والنفس. وهذا المدد وحده هو الذي يحركهما لأداء عملهما. ولولا هذا المدد المستمر، لبقيتا عاجزتين خامدتين لا تملكان قدرة على فعل شيء البتة. وطبيعة