هذا المدد الذي لا ينقطع، وطبيعة تكون مادته، عمل غريب جدا، مستعص على التحديد والتفسير، ولكننا نجد آثاره كائنة ظاهرة في كل ما يمكن أن يسمى "كلاما" قابلا للإدراك والفهم.
وأعجب من ذلك وأغرب: أن جميع قوى الإنسان المدركة والمحسة، مقصور أثر ما تفعله وتحدثه وتدركه وتحسه على صاحبها وحده. وليس لقوة واحدة منها حافز يحفزها على تبليغ ما تحدثه أو تحسه إلى غير صاحبها البتة، ولا لإحداهن وسيلة قادرة على التبليغ والأداء. فالذوق واللمس والشم والسمع والبصر، جميعهن قوى تفعل أفعالها، وتدرك الطعم والجسم والرائحة والصوت والصورة، ولكن غير مستكين في طبيعة إحداهن حافز يحفزها إلى تبليغ شيء مما تجد إلى غير صاحبها، ولا تملك إحداهن وسيلة إلى هذا التبليغ. ومعنى ذلك إنه ليس عند أحد من أصحابها مترجم يترجم عنها، وليس عند أحد من البشر مستقبل يستقبل ما يمكن أن ينقله عنها مترجم. أي هي قُوى صُمّ بُكْم لا تبين، ولا تستطيع أن تفصح بما عندها إلا لصاحبها وحده، دون سائر إخوانه البشر.
وإذا اختصرنا الطريق اختصارا، ونظرنا في الأمر من وجه آخر، فسوف ننتهي إلى ما هو أعجب. فنحن نجده وجدانا ظاهرا لا شك فيه: أن هاتين القدرتين الغامضتين الكامنتين في مكان مبهم من أنفسنا نحن البشر، هما وحدهما القادرتان على احتمال كل ما تعمله قوى الإنسان أو تدركه. وأيضا، هما وحدهما القادرتان عن الإفصاح عما تفعله أو تدركه هذه القوى الصم البكم المقصورة على صاحبها وحده. وأيضا، هما وحدهما المالكتان لشيئين: مالكتان لوسيلة عند صاحبها مُترجِمة مُبْلِغة عن هذه القوى الصُّم البُكْم، تؤدى عنها بعض ما تدركه إلى إنسان آخر غير صاحبها = ثم مالكتان لمستقبل عند غير صاحبها يستقبل الترجمة ويبلغها ويؤديها إلى هذا الإنسان الآخر، وهذان هما "اللسان" و"الأذن"؟ . وعندئذ ينشأ سؤال محير بالغ الخطر، محفوف جوابه بالمبهمات من كل جوانبه. هذا المستقبِل، وهو الأذن، إلى أي قوة كامنة في الإنسان الآخر، تؤدى ما تحمل، أو تبلغها ما حملت؟ إلى أخوات هذه القوى