للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الصُّم البُكْم نفسها في الإنسان الآخر؟ وبقليل من النظر، يظهر بُطْلان الجواب عن ذاك السؤال، إذا أجبت بنعم. فليس معقولا أو ليس موجودا أصلا: أن السمع يؤدى ما يسمعه من صفة الرائحة أو الطعم، يؤدى إلى أنفس السامع نفس الرائحة، أو يؤدى إلى لسانه نفس الطعم! ! وقس على ذلك سائر القوى الصُّم البُكْم التي يستعصى عليها إدراك شيء مما يحمله السمع من الأسماء والصفات. كل هذا الوجه باطل لا يعرج عليه.

وإذا بطل هذا، لم يبق إذن إلا أن السمع يؤدى ما يسمع إلى العقل أو القلب أو النفس، وثلاثتهن جميعا قوى مركبة معقدة مبهمة الأفعال غامضة التصرف، وإن كنا نجد آثار أفعالها وتصرفها واضحا وضوحا لا نشك فيه. كيف يكون ذلك؟ هذا سر من أسرار "الخلق" التي استأثر بعلمها خالق هذا الخلق، ومُودِعه من حكمته وتدبيره ما أودع. وإن كان هذا التفويض إليه سبحانه لا يعجب أهل زماننا و {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}. وعلى كل حال، فقد ألفنا أن نسند إلى ثلاثتهن إدراك جميع ما نسمعه (القلب والنفس هنا رمزان جامعان لقوى كثيرة معقدة خفية في الإنسان).

والذي اصطلح البشر على تسميته "العقل"، أخطر الثلاثة شأنا، وأجهرهن صوتا. و"العقل" على غموض أفعاله وتصرفه، هو أظهر العوامل، بل لعله العامل الأول الذي يمد هاتين القدرتين الغامضتين الكامنتين، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان)، بالمدد الذي يحركهما إلى أداء عملهما في تركيب ما نسميه "الكلام". ولكن هل هذا الذي نقوله أو نتصوره صحيح من كل وجه صحة تنفي عنه كل شك أو تردد أو ارتياب؟ هل يستطيع "العقل" مثلا أن يدرك ثم يبين إبانة ما عن "حلاوة الطعم" التي يجدها اللسان، مجردة من هذين اللفظين اللذين أنشأتهما عندنا "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان"؟ هل يستطيع "العقل" معزولا عزلا تاما عن هاتين القدرتين أن يقول: هذا أبيض، وهذا أسود، قبل أن يوجد عنده لفظ يدل على السواد أو البياض؟ هل هذا أو ذاك