من عمل "العقل" منفردا بالإدراك؟ وعشرات من الأسئلة عن المعاني المفردة والمعاني المركبة، وكلها أسئلة لا يملك امرؤ أن يجيب عنها بقولٍ فَصْل جوابا غير قابل للقوادح التي تفسده أو تبطله، مهما ادعى ذلك المرء لنفسه من البسطة في العلم، ومهما سولت له نفسه أنه قادر على التغلغل في أسرار "الخلق" التي استأثر بها فاطر السموات والأرض ومن فيهن.
ومع كل هذا الغموض الذي يحيط بعمل العقل من نواحيه، فالتأمل يضطرنا اضطرارا إلى أن نسلم مرة بأن هاتين القوتين الغامضتين، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان) عاجزتان عجزا مطلقا عن أداء عملهما في إنشاء الكلام وتركيبه، لولا مدد العقل = وأن نسلم مرة بأن هذا "العقل" غير مطيق لأداء عمله في التفكير والتبين والتمييز إطاقة ندركها، لولا ما تمده به هاتان القوتان الغامضتان، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان)، من الألفاظ التي عنهما وحدهما تنشأ، وبفعلهما وحدهما تتركب، فيما نتوهم. فإذا سلمنا بذلك، فهذا إذن تداخل بين هذه القوى الثلاث ممتنع على الفصل، أي هو تداخل يدور في حلقة مفرغة، لا ندري من أين يبدأ، ولا إلى أين ينتهي. وكذلك يمكن أن يقال عن "القلب" و"النفس" ما قيل في العقل، وإن كان عملهما أشد غموضا من غموض عمل العقل وتصرفه. وهما، من ناحية أخرى، أشد تعلقا بالعقل، والعقل أشد تعلقا بهما.
وإذن، فهذه خمس قُوى: القدرة على النطق، القدرة على البيان، العقل، القلب، النفس، جميعهن قوى متداخلة تداخلا ممتنعا على الفصل، وجميعهن قوى متعانقة تعانقا ظاهرا، ولكن أعمالها جميعا تدور في حلقة مفرغة، وجميعها متغلغل بعضها في بعض تغلغلا باطنا لا يمكن تفسيره أو توضيحه أو تحديده. ويبقى شيء آخر أن هذه القوى المتداخلة بجميعها تتلقى عن الحواس الخمس الظاهرة أفعالها، في ذوق وملمس وشم وسمع وبصر، وتشترك جميعا في إدراك معناها وتبينه وتميزه. وهذا واضح كل الوضوح بعد الذي قلناه آنفا في شأن تداخل هذه القوى تداخلا ممتنعا على الفصل.