ولكن يبقى بعد ذلك شيء مهم جدا، وهو الذي يعنينا هنا أول ما يعنينا. فأي هذه القوى الخمس المتداخلة المتعانقة المتغلغل بعضها في بعض، أيها أعظم شأنا، وأجل خطرا. ولكى نفضى إفضاء سريعا نافذا إلى جواب هذا السؤال، نأخذ هذه الخمس المتداخلات، فنعزل منها القوتين الغامضتين، وهما "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان". فماذا يكون مصير الثلاث الأخر؟ يسقطن جميعا من فورهن هاويات من ذُرَى الشَّرَف (١) التي استوت عليها، لكي تلحق بالقوى الصُّم البُكْم التي لا تطيق أن تفصح لنا عن عملها، بل عن وجودها، أي إفصاح. وإذا أرادت، فإننا نحن أنفسنا لا ندري عندئذ كيف ندرك ما تريد أن تفصح به، ولا ندري أيضا ما هي الوسيلة التي يمكن أن تملكها لتكون مترجمة مبلغة عنها، ولا من يكون المستقبِل الذي يستقبل الترجمة ويؤديها إلى إنسان آخر غير صاحبها. ومعنى ذلك أن "العقل" و"القلب" و"النفس" جميعا ينقلبن إلى قوى مصمتة صامتة عاجزة لا تبين، ولا نطيق نحن البشر عندئذ إدراك شيء من عملها هي، ولا تستطيع أن تبلغنا شيئا مما تدرك، بطل عمل "العقل" و"القلب" و"النفس" بطلانا لا رجعة فيه!
وإذن، فهاتان القدرتان النفيستان الغالبتان الغامضتان الكامنتان فينا حيث لا ندري ولا نعلم، "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان"، هما أشرف القوي وأنبلها وأعظمها سلطانا في بناء الإنسان، لولاهما لخرب البنيان: لولاهما لالتحق الإنسان التحاقا مطلقا لا رجعة فيه ولا مخلص منه بسائر خلق الله من الأنعام والبهائم العجماوات أو الجماد. لولاهما لسقط عنه التكليف، ولأشفق الشيخ أبونا آدم إشفاق السموات والأرض والجبال، حين عرض عليهن ربهن الأمانة، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، و {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، ومع ذلك، وبما حمل من الأمانة، كرم الله بنيه، وجعل منهم الأنبياء والصديقين والشهداء وأولى العلم الذين يشهدون مع الله قائما بالقسط ومع