للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بينهم في الشر، وانطلقوا في أيامهم يعملون على إثباتها في تاريخ الدنيا بمبدئها لا باستبدادها، وبغايتها دون لذاتها، وبالسمو بها إلى الإشراف على نظام الدنيا والسمو بها، لا بسيطرة القوة على إخضاع الدنيا وإذلالها، وجعلها كالبقرة يُحلب درُّها لمن يملكها. فالقانون الإسلامي العظيم هو روح الحضارة التي يجب أن تسود العالم، فإنها حين تسود عليه تجعل الحق هو السيد الذي تخضع له أعناق الناس، لا يبغي بعضهم على بعض في سبيل شهوات غريزية حيوانية مفترسة، يغذوها الدم ويهيجها الدم، فهي آكله لا تشبع وثائرة لا تقر.

والمسلمون اليوم هم جل الشرق، وروح الشرق، ولكنهم مسلمون قد أُفرغوا من معاني الإسلام وبقيت ألفاظه تعيش بهم. إن كل فضيلة من فضائل هذا الدين، وكل عمل من أعماله قد انتزعت منه روحه، فتعامَل الناس على ما خيَّلتْ، لا يبالون ما أمروا به ولا ما نهوا عنه، ففقد هذا الشرق الرأي العام الإسلامي الذي يكون تعبيرًا صحيحًا عن إرادة الإنسانية في الاستعلاء والسمو. ولكن هذه الحرب قد تثير هذا العالم الراكد، وتدفع فيه أمواجه الأولى التي غسلتْ وجه الأرض وطهرته من دنس الحياة المادية العابثة المعرْبدة، فإذا كان ذلك فإن هذا الشرق قد أعد اليوم لأمر جلل، وقد حفظ الله له تاريخه الذي ورثه كاملًا فيه الأسوة وفيه العبرة، وفيه فلسفة الحياة الاجتماعية التي تجعل الفرد الواحد أمة كاملة لأنه هو ممثل الأمة، وتنصبه حاكما لأنه يحكم نفسه أول ما يحكم، وتهيئه جيشًا محاربًا في سبيل الحق الأعلى للإنسانية، لأنه يحارب نفسه أول ما يحارب في إقرارها على إعطاء الحق لمن يستحقه من حقيقة نفسه.

فاليوم يوم الشرق إن اختار أن يبدأ حركته إلى الغاية التي أمر بالبلوغ إليها والوقوف عليها شاهدًا قاضيًا، يدبر الأمر ويصرفه في سيادة الحق كله على الباطل كله. ونحن لا ننسى ما صرنا إليه، ولا نغفل عما فرغت منه أيدينا من أسباب الغلبة التي تتحكم اليوم في مصير الدنيا، ولكن الإرادة تحكم الرجل الواحد، تستطيع أن تحكم العالم كله، وسبيل ذلك أن يكون كل رجل مريدًا إرادة صارمة لغرض مقصود بعينه، فهذه الإرادة هي التي تفتق له الجو الإلهي الذي يعد الإرهاص للمعجزة الإنسانية.