للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

استعصى عليه بعد توْبته، وإن بَيذَخ (بنت إبليس) لتتقاضاه كِفاءَ ما عَصَاها في طاعة الله. وإنها قد طلبت أن يذبحَ لها من الذبائحَ ما يسيلُ على جنباتِ الغَوْرِ (مسكن الجن) حتى ترضَى. قلت: كم يريد مولاك؟ قالت: بين المئتين والثلاثمئة. فوالله ما كذبتُ أن أعطيتُها. فما غابت إلَّا يومًا أو بعضه حتى جاءت تطلبُ المنديلَ الذي أعصبُ به رأسي، فما كذّبتُ أن أعطيتُها. ثم جاءتني من الغَدِ عند الأصيل، فقالت: يقول لك مولاي لا تصلي العشاء الآخرة الليلة حتى يُؤذِنَك. فوالله لقد كبر على ولكني أطعتُه، وإذا أنا أسمعُ في سُدْفَة (١) الفجر صوتا كالمتحدِّر ما بين جبلين يقول: قُومِي إلى صلاتِك. فقمتُ فصلَّيتُ وما كدتُ حتى أذن الفجر. فلما كانَ بعد أيامٍ جائتني صهباءُ تقول: أبشري! سيأتي مولاي الليلة. قلت: مرحَبًا به من ضيف. فلما دَخَلَ الليل وسكن الناس، جاءَ الشيخ لميعاده فسلَّم وسكتَ ثم قال: انظري إليّ يا أم جوان. فنظرت في عينين كالنار المشعلة في الليلة الدّامسة، وجعل يُمر يده بين عيني وعينيه، فكلما احتجبتا عني أظلمت الدنيا في عيني، وإذا وقعت عيني في عينه أضاءَ ما بيني وبينه كالسراج المتوهج، فوالله ما شعرت إلا وظمياءُ تنضحني بالماءِ حتى أفيق. قلت: يا ظمياء! أين الشيخ؟ قالت: لقد أَذنتِ له أن ينصرف بعد أن أعطيته من المال ما طَلَب .. قلت: تبَّا لي أين كان عَقْلي؟ وكم أعطيته؟ قالت: ألف دينار ذَهَبًا، وواعدَك أن يأتيك بعد سبعة أيام بمأوى الخبيثتين.

"قالت كلثم: وهذا اليوم ميعاده، ووالله لئن صدقتني يا عُمَر لقد حفظتك ما عشتُ في قلبي".

"قال عمر بن ربيعة": "فوالله ما كنت أدري ما أقول، إلا أني قلت لها: أَصْدُقُكِ؟ لقد ضللتِ إذن أيتها الحمقاء". قالت: "أنا حمقاء أيها الفاجر الفاسق! ثم قامت إلى صوانها فاستخرجت منه شيئًا ونشرته لعيني، فإذا سَرَقةٌ (٢) من حرير أبيض عليها صورتان، فما تأملتها إلا كانتا والله قينتي ابن هلال حيث رأيتهما وسمعتهما بالكوفة، ولقد كانتا في السَرَقة أجمل وأفتن وأحبَّ إليَّ مما


(١) السُّدفَة: الظلمة.
(٢) السُّرَقة: أجود أنواع الحرير.