ثياب مدنية، فأقطعتهم المدارس ينشئونها حيث يشاؤون، وجاءت بدنلوب ليضرب التعليم المصري ضربات قاضية لا تزال إلى اليوم باقية لا تدري وزارة المعارف كيف تخلص منها. وإذا هذه المدارس تأخذ أبناءنا من بيوتنا، فتضعهم بين جدرانها، وتنفث فيهم سمَّها، وتحقِّر لهؤلاء الصغار بلادهم وأهلهم، وتمتهن لغتهم حتَّى كانت تمنع طلبتها عن أن يتكلموا بالعربية بتة، ولا في أوقات الفسحة ما بين الدروس، فإذا فعل ذلك طفل منهم عوقب أشد العقاب، وداروا به على الفصول كأنه مجرم قد ارتكب أشنع جريمة يعاقب عليها القانون. وبقيت بريطانيا الممثلة في دنلوب ونظام دنلوب ورجال دنلوب تحمي الوباء وهذا البلاء حتَّى استفحل، وخرج جيل من أبناء مصر نفسها ينظر إلى بلاده كأنها أرض غريبة يحتقرها كما رأى أن الأجنبي يحتقرها، وكما رأى زميله الأجنبي يزدريها.
وأكبر من ذلك أيضًا أنها أخذت هؤلاء المساكين الذين أضلَّتهم مدارسهم الأجنبية فآوتهم ونصرتهم ثم مكَنت لهُمْ وصاروا لها أشياعًا يثنون عليها ويفضلونها على سائر أهل الأرض وعلى أهل بلادهم. واتخذوا لذلك كل أسلوب يدل اتخاذه على أن بريطانيا لا تتورع عن أن تجعل أخسَّ الطبائع البشرية والشهوات الإنسانية سلاحًا تقاتل به الشعب الَّذي اعتدت عليه واستبدت به. فصار الشعب المصري يسمع مصريًّا مثله يبسط لسانه في تاريخ شعبه وفي أخلاق شعبه غافلا عن السبب الأول الَّذي كان داعيًّا إلى انهيار هذا الشعب، ألا وهو بريطانيا وشُذّاذها.
فكل هذا وكثير سواه كان احتلالًا أدبيًّا ضرب على مصر والسودان كما ضرب عليها الاحتلال العسكري، فنحن لن نكتفي بأن يزول الاحتلال العسكري بجلاء الجنود؛ بل لابد من إجلاء ما ورَّثناه الاحتلال العسكري من نُظم ومن شيع ومن عادات ومن أخلاق؛ حتَّى لا يكون المصري والسوداني غريبًا في بلاد، مُمْتَهَنا في أرضه، مضروبًا بالفقر والجهل والهزيمة في دياره.
ذلك هو يوم الجلاء الأعظم: يوم يعود إلينا أخونا المصري السوداني المقيم في بريطانيا "يعقوب عثمان" ليقول لبلاده إني أخطأت فاغفري لي زلتي