وأنا أقدِّمُ بين يدي كلامي حقيقة لابدَّ من تقريرها عن الرافعي والعقاد، وذلك أن الرافعي -رحمه الله- لو كان يرى العقاد ليس بشيء البتة، وأن أدبه كله ساقط ذاهب في السقوط، وأنَّ وأن. . . . مما كان يكتب ليغيظ به العقاد من جراء العداوة التي ضربت بينهما -لما حمل الرافعي عناء الكتابة في نقد العقاد وتزييف أدبه وإبطال أصل الشعر في شعره. ولو كان العقاد يرى الرافعي بعض رأيه الَّذي كتب لما تكلف الرد على الرافعي ولا التعرض له. وكم من رجل كتب عن الرافعي وعن العقاد ونال منهما وأوجع! ولأنه ليس يدخل في حسابهما، ولا يقيمان لأمثاله وزنًا، ولا يعبآن بقوله ونقده وثورته- فقد تركاه يقول فيكثر فيملُّ فيسكُت. ولم يكن بين أحد منهما وبين مثله كالذي كان بين الرافعي والعقاد.
فالرافعي والعقاد أديبان قد أحكما أصول صناعتيهما، كلٌّ في ناحيته وغرضه، وأفنيا الليالي والأيام والسنين في ممارسة ما هو فيه وإليه، وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه، ولا يُظن بأحدهما أنَّه يجهل قيمة الآخر. فلما كانت العداوة بأسبابها بينهما بدأت قوَّة تعارضُ قوة، ورأيٌّ يصارع رأيًا، وكان في كليهما طبيعة من العنف والعُرام (١) والحدَّة، وَولِعَ العقادُ بإرسال العبارة حين يغضب على هينتها صريحة لا صنعة فيها، وأُغرى الرافعي بالسخرية والمبالغة في تصوير ما نصبه لسخره وتهكمه على طريقة من الفن؛ فمن ثمَّ ظهرت العداوة بينهما في النقد. وفي أذيالها أذى كثير وغبارٌ ملؤه القواذع والقوارص من اللفظ، وعلى جنباته صورٌ ينشئها أحدهما لصاحبه للكيد والغيظ والحفيظة، لا يراد بها إلا ذلك. ولقد شهدتُ أن الَّذي كان يكتبه الرافعي عن العقاد لم يكن عندي مما يحملني على الحط من منزلة العقاد التي كان ينزلها في نفسي، بل أستيقن أن الَّذي يكتبه إنما يراد به النيل من غيظ العقاد لا من العقاد نفسه. وعلى مثل ذلك كُنْتُ أجد ما يكتبه العقاد عن الرافعي، فلم يكن نيل العقاد من الرافعي -وأنا أحبه- مما يحملني العداوة له أو يدفع بي إلى الغيظ والحنق والثورة.
وخليق بنا وبآدابنا أن نطوى الآن سيئة رجلين قد تفارط أحدهما في غيب الله. وبقى الآخر تحوطه الدعوة الصالحة بطول البقاء وامتداد الأجل وسداد العمل.