وقد ذهب الرافعي في نقد هذا البيت مذهب العربي حين يسمع الكلام العربيَّ لا ينحرف بألفاظه إلى غير معانيها حتى يتسع في معاني الألفاظ بغير دلالة ظاهرة أو مُسوِّغ مُضْمر ولا يقبض من معانيها إلا بمثل ذلك مما يجيز انقباض بعض اللفظ عن سائره. وقد قال العقاد لصاحبته في الغزل:"فيك من كلِّ شيءٍ" و"وفيك من كل موجود". والعرب والفلاسفة جميعًا يزعمون أن لفظ (كلّ) إذا دخَل على النكرة أوجب عموم أفرادها على سبيل الشمول دون التكرار. فكذلك أوجب الشاعر على صاحبته أن يشمل (جوهر شخصيتها) جزءًا من كلِّ ما يمكن أن يسمى (شيئًا)، ومن كل ما يسوغ أن يسمى (موجودًا وموعودًا). وهذا الإطلاق من (فيلسوف يتغزَّل) يقتضي شمول الأفراد من (كلِّ شيء)، ومن (كلِّ موجود). وليس يشك أحد -ممن لم يسلبهم الله "الطبع" و "العقيدة" ولم يحرمهم "الخيال البارع" -في أن ما ذكره الرافعي في كلامه- من البق إلى الملح الإنجليزي- شيء من الأشياء وموجود من الموجودات. والفيلسوف حين يتغزل لن يريد هذا بغير شك، ولكن أين تذهب بمعنى اللفظ (كلّ) في العربية؟ وفي حدود الألفاظ التي تدور على ألسنة الفلاسفة؟ وأي دلالة توجب قبض معنى الشمول من هذا اللفظ؟ أو أيُّ مُسَوِّغ يجيز الحد من الإحاطة التي يقتضيها هذا الحرف في مجرى قول الشاعر "فيك من كل شيء" وفيك "من كل موجود"؟ !
هذا بعض القول في فساد ألفاظ هذا البيت، وبطلان معنى الفلسفة فيه. ولا يفوتني في هذا الموضع أن أدل على موضع الضعف في فهم الأستاذ قطب لكلام الرافعي. فالرافعي يقول:"قلنا، فإن من -كل موجود- البق. . . . إلخ"، والأستاذ الأديب البارع يقول وكأنه يشرح معنى الرافعي:"فأي طبع سليم يتجه إلى تفسير بيت غزلي. . . . بأن "كل موجود" هو البق والقمل. . . . إلخ"؟ غافلا عما في هذا الإحساس من "حياة" و"خيال بارع"، تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذه المرأة من متنوع الصفات وشتى المزايا عالمًا كاملًا من كل موجود وموعود". والرافعي -رحمه الله- لم يقُل إن (كل موجود) هو البق. . . إلخ، وإنما