للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

"أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب". آخر كلمة ينطق بها - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة! آخر كلمة تجرى على لسانه وهو يلبى دعوة ربه إلى الرفيق الأعلى! ويروى الرواة هذه الكلمة، ويأتي علماؤنا أحسن الله جزاءهم فيقفون عند هذا الحديث ينظرون ما سر هذا الأمر الحازم القاطع؟ إنهم لا يهتدون إلى سر، ولا يقفون على خبر، إلا أن يقولوا جميعًا كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص ٩٩: "وإنما نُرَاه قال ذلك - صلى الله عليه وسلم - لنكث كان منهم، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح". رويدكم أيها العلماء! إنه تأويل متهافت، ولا تجعلوا الظن أصلا في التأويل. لقد كان أولى بكم أن تسألوا أنفسكم: أي نكث ذلك الذي كان من يهود الحجاز ومن أهل نجران؟ وكيف ذهب خبره فلم يرو لنا؟ وأي أمر ذلك الذي أحدثوه بعد الصلح؟ وكيف غاب عنا خبره؟ ولكن غفر الله لكم وجزاكم خيرًا إذ لم تقطعوا برأي تدلسونه على الناس كما يفعل أدعياء العلم وكذبة العلماء في عصرنا هذا، بل قلتم جميعًا كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "إنما نراه" (بضم النون) أي إنما نظنَّه ظنا. ولكن ما قيمة الظن في أمر كهذا الأمر؟ وكيف تريدون أن تفسروا حديثًا بظن من الظنون لم تأت به رواية، ولم يعرف له خبر يؤيده من حوادث التاريخ؟

كلا أيها العلماء! إنها آخر كلمة تكلم بها رسول الله وهو معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، آخر كلمة ينطق بها لسان نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى. كلَّا، فالأمر أعظم وأجل وأخطر مما تظنون. إنها كلمة من كلمات النبوة! إنها تنبيه من الله على لسان نبيه إلى أحداث ستكون، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسى كافرًا. لقد كشف الغطاء ويتجلى لرسول الله غيب ما سيكون، فرآه وهو على فراش الموت كما رآه المؤمنون عيانًا من بعد: فتنة ماحقة في الحجاز وما جاورها، وفي نجران وما أَطاف بها. نار مشعلة فيما حول المدينة من الحجاز، وأخرى مستعرة فيما حول نجران من اليمن. إنه يقولها - صلى الله عليه وسلم - لا لشيء كان بل لشيء سيكون، يراه هو ولا يراه أصحابه -رضي الله عنهم-.

ولقد نزل الموت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأشد ما ينزل حتى دعا بقدح من ماء،