يمكن المؤلف فيعمل ليتلافي هذا النقص وخاصة في التاريخ العربي أن يتسقّط أخبار الحياة الاجتماعية من قصيدة لشاعر أو كلمة لخطيب أو وصف أو قصة فيؤلف بينها ثم يمنحها من خياله وفكره ما يتمم به النقص الذي وقع فيها ويضع عليها من زينتها ما يظنُّ أنها كانت تتجمل بهِ ثم يعرضها لك بعد عرضًا خلابًا رائعًا حتى لتحسَّ وأنت تقرأ ما كتب أنك قد انتقلت من عصرك الذي أنت فيهِ إلى عصرِ مثل هذا العصر العباسيّ الذي تناوله "ضحى الإسلام"، وأنك تعيش في جوّ من الحياة العباسية فيها سحرها وجمالها ولها روعتها وجلالها ويترقى إليك المؤلف خلال ذلك بما يحقق من علاقة هذا الاجتماع بالعلم والفن وأين أثر كلِّ في صاحبه غير تاركك فتنسى أنك تعيش في ديار الدولة العباسية. فإذا أراد أن يحقق القول في موضوع بعينه كالرقيق مثلًا أفرد له خاصة ما يخرج فيهِ رأيه بأدلته وبراهينه وحججه وما ينتهي إليه من أخباره زَيْفها وصحيحها.
ونحن نعتقد أن المؤلف قد قصّر في هذا الباب على جلالة ما كتب فيهِ. وإن القيد الذي وضعهُ من الاجتزاء بما لهُ أثر قويٌّ. . . في العلم والفن من الحياة الاجتماعية قد أضاع بهجة هذا الباب. وقد كان يستطيع أن يحتفظ بشرطهِ هذا مع شيء من التوسع في صفة بعض بلاد الدولة العباسية وأهمها بغداد حتى يحس القارئ وكأنهُ ارتحل فوافى بغداد يرى من أطرافها الأسوار والقباب العالية على أبوابها، بينها الأبراج عليها حراسها وحجابها في أزيائهم وملابسهم، والتماثيل على رؤوسها تلوح وتلمع. حتى إذا دخل بغداد رأى القصور بين البساتين والأنهار فإذا دخلها رأى الدهاليز والممرات والمخترقات والصحون فيها الصور الفاتنة على أعمدة الرخام، والمجالس فيها الفرش الجميلة والأبسطة المطرزة بالألوان الغريبة، والشعْرَ المنقوش على أطرافها وأوساطها. ورأى صور الفيلة والخيل والجمال والسباع والطير على ستور الديباج المذهبة. ورأى الخليفة في أبهته وجلاله ومن يحيط بهِ من حاشيته من أجناس الأمم في اللباس العجيب. ورأي العلماء والشعراء والحجاب تروح وتغدو، ورأى زيّ القضاء وزي الشرطة وزيّ الكتابِ وزيّ الوزراء وزي الأعراب من الشعراء وهم ينشدون مديحه في صوت البدويّ الجافي