للقوم الذين يتكوَّن منهم الرأي العام- ليوقظوا ذلك التاريخ المنسى الذي طمست عليه فتنة المدنية الحديثة التي أتت إلى بلادنا، فأحالت رجالنا إلى رجال ليسوا منا، وما هم إلا كترجمة فاسدة في لغة ركيكة لكتاب بليغ في لغة أخرى. هذا مَثَلُهم. . .
إن الحياة -أيها المعاصرون الأصدقاء- قد كتبت على الأرض مدنيات كثيرة، علت مدنية وجاءت أخرى فبغت عليها بطوفانها حتى ذهبت بها إلا آثار للتاريخ. لقد قامت مدنية الهند والصين وآشور والكلدان، ومدنية مصر والعرب وغيرهم مما نعلم وما لا نعلم، ثم ألقى الدهر عليها كَلْكَله فسوّاها، فكم من باكٍ بكى على هذه المدنيات المسكينة التي دفنت تحت أجساد متجمدة من الدم؟ كم من باكٍ بكى عليها من غير أهلها؟
ونحن! ! نحن الشرقيين! ! نحن المصريين! ! نحن العرب! ! هذه أعظم جرائم التاريخ قد فتكت بنا وبرجالنا وبمجدنا، وسلبتنا حتى العقل، حتى الروح، حتى الآمال والأماني والأحلام، من بكى علينا يومئذ؟ ومن يبكى علينا اليوم؟ أين هؤلاء الكتاب الذين فتنتهم باريس بالأمس وأبكتهم على لذاتها اليوم، أين هم من تلك الصور الفظيعة المخيفة التي يعرضها عليهم التاريخ في كتبه؟ صور آبائهم وأجدادهم، ومن يتبجحون بالانتساب إليهم والتحدر من أصلابهم؟ ؟ وهم يتعذبون ويشردون ويطاردون بين خوافق السماء وفي جوانب الأرض! ! ! أولئك هم الغافلون: لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها.
ثم انظروا .. انظروا .. أليس الجنرال بيتان هو ابن فرنسا وابن باريس وابن المجد الفرنسي الذي توارثه عن أجداده وعن تاريخه وتاريخ بلاده. لقد قام الرجل الفيلسوف الجندي الحزين يصور للشعب الفرنسي. . . حقيقة حضارته التي كان سرها وخلاصتها وأجودها ممثلًا في باريس. لقد وصفها صفة خالدة الميسم على الحضارة الفرنسية الباريسية، حضارة اللذة واللهو، حضارة المجون والعبث، حضارة من يأخذ لذة ولا يعطى أمته فائدة ولا مجدا. لقد كان حكم بيتان على