الإيمان ببعض ما يجب الإيمان به كافٍ لأنه علم من عرف الشرع أن المراد من الإيمان الحقيقة المعهودة، وفي رواية الأصيلي والحموي والمستملي من الإيمان بالتعريف. ثم إن المراد بقوله حبة من خردل التمثيل، فيكون عيارًا في المعرفة لا في الوزن حقيقة، لأن الإيمان ليس بجسم، فيحصره الوزن والكيل، لكن ما يشكل من المعقول قد يردّ إلى عيار محسوس، ليفهم ويشبه به ليعلم، والتحقيق فيه أن يجعل عمل العبد وهو عرض في جسم على مقدار العمل عنده تعالى، ثم يوزن كما صرّح به في قوله: وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، أو تمثل الأعمال بجواهر فتجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة، أو الموزون الخواتيم. وقد استنبط الغزالي من قوله أخرجوا من النار من كان في قلبه الخ. نجاة من أيقن بالإيمان، وحال بينه وبين النطق به الموت، فقال: وأما من قدر على النطق ولم يفعل حتى مات مع إيقانه بالإيمان بقلبه، فيحتمل أن يكون امتناعه منه بمنزلة امتناعه عن الصلاة، فلا يخلد في النار. ويحتمل خلافه، ورجح غيره الثاني، فيحتاج إلى تأويل قوله في قلبه، فيقدّر فيه محذوف تقديره منضمًّا إلى النطق به مع القدرة عليه، ومنشأ الاحتمالين الخلاف في أن النطق بالإيمان شطر فلا يتم الإيمان إلا به، وهو مذهب جماعة من العلماء، واختاره الإمام شمس الذين وفخر الإسلام، أو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، وهو مذهب جمهور المحققين، وهو اختيار الشيخ أبي منصور، والنصوص معاضدة لذلك قاله المحقق التفتازاني.
(فيخرجون منها) أي من النار حال كونهم (قد اسودوا) أي صاروا سودًا كالحمم من تأثير النار، (فيلقون) بضم المثناة التحتية مبنيًّا للمفعول (في نهر الحيا) بالقصر لكريمة وغيرها أي المطر (أو الحياة) بالمثناة الفوقية آخره، وهو النهر الذي من غمس فيه حيي، (شك مالك) وفي رواية ابن عساكر يشك بالمثناة التحتية أوّله أي في أيهما الرواية، ورواية الأصيلي من غير الفرع الحياء بالمد ولا وجه له، والمعنى على الأولى لأن المراد كل ما تحصل به الحياة، وبالمطر تحصل حياة الزرع بخلاف الثالث، فإن معناه الخجل، ولا يخفى بعده عن المعنى المراد هنا، وجملة شك اعتراض بين قوله فيلقون في نهر الحياة السابق، وبين لاحقه وهو قوله (فينبتون) ثانيًا (كما تنبت الحبة) بكسر المهملة وتشديد الموحدة، أي كنبات برز العشب، فأل للجنس أو للعهد، والمراد البقرة الحمقاة لأنها تنبت سريعًا. (في جانب السيل، ألم تر) لكل من يتأتى منه الرؤية (أنها تخرج) حال كونها (صفراء) تسرّ الناظر، وحال كونها (ملتوية)، أي منعطفة منثنية، وهذا مما يزيد الرياحين حسنًا باهتزازه وتمايله، فالتشبيه من حيث الإسراع والحسن، والمعنى من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان يخرج من ذلك الماء نضرًا متبخترًا كخروج هذه الريحانة من جانب السيل صفراء متمايلة، وحينئذ فيتعين كون أل في الحبة للجنس فافهم، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في صفة الجنة والنار، حيث أخرج المؤلف هذا الحديث. وقد أخرجه مسلم أيضًا في الإيمان، وهو من عوالي المؤلف على مسلم بدرجة، وأخرجه النسائي أيضًا، وليس هو في الموطأ. وهو هنا قطعة من الحديث الآتي إن شاء الله تعالى بعون الله مع مباحثه.