قال في فتح الباري: ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا ومن قول موسى إني قتلت نفسًا وأن يغفر لي اليوم حسبي مع أن الله غفر له بنص القرآن التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع منه شيء أصلًا، فإن موسى مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك أو رأى في نفسه تقصيرًا عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه بخلاف نبينا ﷺ في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة لأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بمعنى أن الله أخبر أن لا يؤاخذه بذنب، ولو وقع منه، قال وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد، وقال القاضي عياض: ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد ﷺ معينًا وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إليه ﷺ إظهارًا لشرفه في ذلك المقام العظيم.
(اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه) من الكرب (فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي ﷿ زاد في حديث أبي بكر الصديق عند أبي عوانة قدر جمعة (ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي) وفي حديث أبيّ بن كعب عند أبي يعلى رفعه: يعرفني الله نفسه فأسجد له سجدة يرضى بها عني ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني (ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه) بسكون الهاء (واشفع تشفع) مبني للمفعول من التشفيع أي تقبل شفاعتك (فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب) مرتين ولأبي ذر أمتي يا رب فزاد ثالثة (فيقال: يا محمد أدخل من أمتك) بكسر الخاء أمر من الإدخال أي الجنة (من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة) وهم سبعون ألفًا وهم أول من يدخلها (وهم) أيضًا (شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال: و) الله (الذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة) بكسر الميم من مصراعين وهما جانبا الباب (كما بين مكة وحمير) بكسر الحاء المهملة وفتح التحتية بينهما ميم ساكنة آخره راء أي صنعاء لأنها بلد حمير (أو كما بين مكة وبصرى) بضم الموحدة مدينة بالشام بينها وبين دمشق ثلاث مراحل والشك من الراوي.
وهذا الحديث قد مرّ باختصار في أحاديث الأنبياء.
٦ - باب قَوْلِهِ: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: ٥٥]
(باب قوله) تعالى: ﴿وآتينا داود زبورًا﴾ [الإسراء: ٥٥] كتابًا مزبورًا أي مكتوبًا أو هو اسم للكتاب الذي أنزل عليه وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام بل كلها تسبيح وتقديس وتحميد وثناء على الله ﷿ ومواعظ، ونكره هنا لدلالته على التبعيض أي زبورًا من الزبر أو زبورًا فيه ذكر النبي ﷺ، فأطلق على القطعة منه زبور كما يطلق على بعض القرآن، وفيه تنبيه على وجه تفضيل نبينا ﷺ وهو أنه خاتم النبيين وأمته خير الأمم المدلول عليه بما كتب في الزبور وسقط قوله لغير أبي ذر.