والمراد أنه، ﵊، دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وليس المراد صلاة الميت المعهودة، كقوله تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٣] والإجماع يدل له، لأنه لا يصلّى عليه عندنا، وعند أبي حنيفة، المخالف لا يصلّى على القبر بعد ثلاثة أيام.
فإن قلت: حديث جابر لا يحتج به لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها في خبر الإثبات.
أجيب: بأن شهادة النفي إنما تردّ إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة. وإلاّ فتقبل بالاتفاق. وهذه قضية معينة، أحاط بها جابر وغيره علمًا. وأما حديث الإثبات فتقدم الجواب عنه، وأجاب الحنفية: بأنه تجوز الصلاة على القبر ما لم يتفسخ الميت، والشهداء لا يتفسخون، ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان.
وأول أبو حنيفة الحديث في ترك الصلاة عليهم يوم أحد على معنى اشتغاله عنهم، وقلة فراغه لذلك، وكان يومًا صعبًا على المسلمين، فعذروا بترك الصلاة عليهم يومئذ. وقال ابن حزم الظاهري: إن صلي على الشهيد فحسن، وإن لم يصل عليه فحسن، واستدلّ بحديثي جابر وعقبة، وقال: ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ لأن استعمالهما معًا ممكن في أحوال مختلفة.
(ثم انصرف إلى المنبر) ولمسلم، كالمؤلّف في المغازي: ثم صعد المنبر كالمودعّ للأحياء والأموات (فقال: إلي فرط لكم) بفتح الفاء والراء، هو: الذي يتقدم الواردة ليصلح لهم الحياض والدلاء، ونحوهما. أي: أنا سابقكم إلى الحوض، كالمهيئ له لأجلكم. وفيه إشارة إلى قرب وفاته ﵊. وتقدمه على أصحابه، ولذا قال: كالمودع للأحياء والأموات (وأنا شهيد عليكم) أشهد عليكم بأعمالكم، فكأنه باق معهم لم يتقدمهم، بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم، فهو ﵊ قائم بأمرهم في الدارين، في حال حياته وموته. وفي حديث ابن مسعود عند البزار، بإسناد جيد، رفعه: حياتي خير لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت الله لكم (وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن) نظرًا حقيقيًّا بطريق الكشف (وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض) شك الراوي، فيه إشارة إلى ما فتح على أمته من الملك والخزائن من بعده (وإني والله أخاف عليكم أن تشركوا بعدي) أي: ما أخاف على جميعكم الإشراك، بل على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من بعض (ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيهم) بإسقاط إحدى تاءي: تنافسوا، والضمير: لخزائن الأرض، المذكورة، أو للدنيا، المصرح بها في مسلم كالمؤلّف في المغازي، بلفظ: ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، والمنافسة في الشيء الرغبة فيه، والانفراد به.
ورواة هذا الحديث كلهم مصريون، وهو من أصح الأسانيد، وفيه رواية التابعي عن التابعي