يا معاذ بن جبل) بضم معاذ منادى مفرد علم، واختاره ابن مالك لعدم احتياجه إلى تقدير ونصبه على أنه مع ما بعده كاسم واحد مركب كأنه أضيف، وهذا اختاره ابن الحاجب والنادى المضاف منصوب فقط (قال) أي معاذ (لبيك يا رسول الله وسعديك، قال)﵊: (يا معاذ. قال) معاذ: (لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثًا) يعني أن نداءه ﵊ لمعاذ وإجابة معاذ قيل ثلاثًا (قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) شهادة (صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار) والجار والمجرور الأول وهو من قلبه يتعلق بقوله صدقًا أو بقوله يشهد، فعلى الأول الشهادة لفظية أي يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، وعلى الثاني قلبية أي يشهد بقلبه ويصدّق بلسانه واحترز به عن شهادة المنافقين.
فإن قلت: إن ظاهر هذا يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد وهو مصادم للأدلة القطعية الدالّة على دخول طائفة من عصاة الموحدين النار ثم يخرجون بالشفاعة؟ أجيب: بأن هذا مقيد بمن يأتي بالشهادتين تائبًا ثم يموت على ذلك، أو أن المراد بالتحريم هنا تحريم الخلود لا أصل الدخول أو أنه خرج مخرج الغالب إذ الغالب أن الموحد يعمل بالطاعات ويجتنب المعاصي، أو من قال ذلك مؤديًا حقه وفرضه، أو المراد تحريم النار على اللسان الناطق بالشهادتين كتحريم مواضع السجود.
(قال) معاذ (يا رسول الله أفلا) بهمزة الاستفهام وفاء العطف الحذوف معطوفها والتقدير أقلت ذلك فلا (أخبر به الناس فيستبشروا) نصب بحذف النون والتقدير فأن يستبشروا، ولأبي ذر فيستبشرون بالنون أي فهم يستبشرون. (قال)ﷺ: (إذًا) أي إن أخبرتهم (يتَّكلوا) بتشديد المثناة الفوقية أي يعتمدوا على الشهادة المجردة، وللكشميهني ينكلوا بنون ساكنة وضم الكاف من النكول وهو الامتناع أي يمتنعوا عن العمل اعتمادًا على مجرد التلفّظ بالشهادتين (وأخبر) وفي رواية أخبر بغير واو (بها معاذ عند موته) أي موت معاذ (تأثمًا) بفتح المثناة الفوقية والهمزة وتشديد المثلثة نصب على أنه مفعول له أي تجنبًا عن الإثم إن كتم ما أمر الله بتبليغه حيث قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧].
فإن قلت: سلمنا أنه تأثم من الكتمان، فكيف لا يتأثم من مخالفة الرسول ﵊ في التبشير؟ أجيب بأن النهي كان مقيدًا بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك أو أن النهي إنما كان للتنزيه لا للتحريم، وإلاّ لما كان يخبر به أصلاً. وقد روى البزار من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة أن النبي ﷺ أذن لمعاذ في التبشير فلقيه عمر ﵁ فقال: لا تعجل ثم دخل فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيًا لأن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها. قال: فرده فرده. وقد تضمن هذا الحديث أن يخص بالعلم قوم فيهم الضبط وصحة الفهم ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله ومن يخاف عليه الترخيص، والاتكال لتقصير فهمه وهو مطابق لما ترجم له المؤلف.