(و) الله (الذي نفسي بيده) بقدرته أو في ملكه (لا يكلم) بضم التحتية وسكون الكاف وفتح اللام أي لا يجرح (أحد) مسلم (في سبيل الله) أي في الجهاد ويشمل من جرح في ذات الله وكل ما دافع فيه المرء بحق فأصيب فهو مجاهد كقتال البغاة وقطاع الطريق وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعند مسلم من طريق همام عن أبي هريرة: كل كلم يكلمه المسلم (-والله أعلم بمن يكلم) يجرح (في سبيله-) جملة معترضة بين المستثنى منه والمستثنى مؤكدة مقررة لمعنى المعترض فيه وتفخيم شأن من يكلم في سبيل الله، ومعناه والله أعلم تعظيم شأن من يكلم في سبيل الله ونظيره قوله تعالى: ﴿قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى﴾ [آل عمران: ٣٦] أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، ويجوز أن يكون تتميمًا للصيانة عن الرياء والسمعة وتنبيهًا على الإخلاص في الغزو وأن الثواب المذكور إنما هو لمن أخلص فيه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا (إلا جاء يوم القيامة و) جرحه يثعب بالمثلثة والعين المهملة يجري دمًا (اللون لون الدم والريح ريح المسك). أي كريح المسك إذ ليس هو مسكًا حقيقة بخلاف اللون لون الدم فلا حاجة فيه لتقدير ذلك لأنه دم حقيقة فليس له من أحكام الدنيا والصفات فيها إلا اللون فقط، وظاهر قوله في رواية مسلم: كل كلم يكلمه المسلم أنه لا فرق في ذلك بين أن يستشهد أو تبرأ جراحته، لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما رواه ابن حبان في حديث معاذ: عليه طابع الشهداء، والحكمة في بعثته كذلك أن يكون معه شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله ﷿، ولأصحاب السُّنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث معاذ بن جبل: من جرح جرحًا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك.
قال الحافظ ابن حجر: وعرف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد بل هي حاصلة لكل من جرح كذا قال فليتأمل.
وقال النووي: قالوا وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من جرح في سبيل الله في قتال البغاة وقطاع الطريق وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، وكذا قال ابن عبد البرّ واستشهد على ذلك بقوله ﵊:"من قتل دون ماله فهو شهيد". لكن قال الولي بن العراقي: قد يتوقف في دخول المقاتل دون ماله في هذا الفصل لإشارة النبي ﷺ إلى اعتبار الإخلاص في ذلك بقوله: والله أعلم بمن يكلم في سبيله والمقاتل دون ماله لا يقصد بذلك وجه الله وإنما يقصد صون ماله وحفظه فهو يفعل ذلك بداعية الطبع لا بداعية الشرع، ولا يلزم من كونه شهيدًا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك وأيّ بذل بذل نفسه فيه لله حتى يستحق هذا الفضل.
وهذا الحديث أورده المؤلّف في باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء من كتاب الطهارة وسبق البحث في وجه ذكره ثَمَّ.