بوجه ما، وأما قول بعضهم أكل الجن صحيح ولكنه تشمم واسترواح لا مضغ وبلع وإنما المضع والبلع لذوي الجثث فلا دليل عليه، وكونهم أجسادًا رقيقة لا يمنع أن يكونوا ممن يأكل ويشرب، وبالجملة فالقائلون إن الجن لا تأكل ولا تشرب إن أرادوا جميعهم فباطل لمصادمتهم الأحاديث الصحيحة، وإن أرادوا صنفًا منهم فمحتمل، لكن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون ويشربون. وقول الله تعالى: ﴿لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان﴾ [الرحمن: ٥٦] يدل على أنه يتأتى من الجن الطمث وهو الافتضاض وهو الجماع الذي يكون معه تدمية من الفرج أو المسيس بالمجامعة، وكذا قوله تعالى: ﴿أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني﴾ [الكهف: ٥٠] فإنه يدل على أنهم يتناكحون لأجل الذرية ورقتهم لا تمنع من توالدهم إذا كان ما يلدونه رقيقًا ألا ترى أنا قد نرى من الحيوان ما لا يتبين للطافته إلا بالتأمل ولا يمنع ذلك من التوالد، وغالب ما توجد الجن في مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل، وكثير من أهل الضلالات والبدع المظهرين للزهد والعبادة على غير الوجه الشرعي يأوون إلى مواضع الشياطين المنهي عن الصلاة فيها يقع لهم فيها بعض مكاشفات لأن الشياطين تنزل عليهم فيها وتخاطبهم ببعض الأمر كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابديها.
واختلف هل هم مكلفون؟ فذهب الحشوية إلى أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا مكلفين، والذي عليه الجمهور أنهم مكلفون مخاطبون مثابون على الطاعات معاقبون على المعاصي (لقوله)﷿: (﴿يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم﴾) في موضع رفع صفة لرسل (﴿يقصون عليكم آياتي﴾)[الأنعام: ١٣٠] إلى قوله: (﴿عما يعملون﴾) وسقط لأبي ذر إلى قوله: ﴿عما يعملون﴾ وقال: الآية ويحتمل أن تكون يقصون صفة ثانية لرسل وأن تكون في موضع نصب على الحال وصاحبها رسل وإن كان نكرة لتخصيصه بالوصف أو الضمير المستتر في منكم، وزعم الفراء أن في الآية حذف مضاف أي: ألم يأتكم رسل من أحدكم يعني من جنس الإنس كقوله تعالى: ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرجان من الملح فالتقدير يخرج من أحدهما وإنما يحتاج إلى ذلك لأن الرسل عنده مختصة بالإنس يعني أنه يعتقد أن الله ما أرسل للجن رسولاً منهم بل إنما أرسل إليهم الإنس ولم يرسل من الجن إلا بواسطة رسالة الإنس لقوله تعالى: ﴿ولّوا إلى قومهم منذرين﴾ [الأحقاف: ٢٩] وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، وإن قلنا: إن رسل الجن من الإنس لأنه يطلق عليهم رسل مجازًا لكونهم رسلاً بواسطة رسالة الإنس والإجماع على أن نبينا ﷺ مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، وتمسك قوم منهم الضحاك وقالوا: بعث إلى كل من الثقلين رسل منهم وإن الله تعالى أرسل إلى الجن رسولاً منهم اسمه يوسف. قال ابن جرير: وأما الذين قالوا بقول الضحاك فإنهم قالوا إن الله تعالى أخبر أن من الجن رسلاً أرسلوا إليهم، ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجن. قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدل على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله تعالى لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره.