المتكلم والثاني الجملة الاستفهامية وهي معلقة للرؤية، وكيف في موضع نصب على التشبيه بالظرف أو بالحال والعامل فيها تحي، وقد ذكروا في سبب سؤال الخليل لذلك وجوهًا، فقيل إنه لما احتج على نمروذ بقوله ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ: أنا أحيي وأميت أطلق محبوسًا وأقتل آخر. قال إبراهيم: إن الله يحيي بأن يقصد إلى جسد ميت فيحييه ويجعل فيه الروح، فقال نمروذ: أنت عاينت ذلك فلم يقدر أن يقول له: نعم عاينته فقال: ﴿رب أرني كيف تحي الموتى﴾؟ حتى يخبر به معاينة إن سئل عن ذلك مرة أخرى، وقيل إنه سأل زيادة يقين وقوة طمأنينة إذ العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل في قوتها وطريان الشكوك على الضروريات ممتنع ومجوز في النظريات، فأراد الانتقال من النظر أو الخبر إلى المشاهدة والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين. فليس الخبر كالمعاينة.
(﴿قال أوَلم تؤمن﴾) بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة؟ قال له ذلك وقد علم أنه أثبت الناس إيمانًا ليجيب بما أجاب فيعلم السامعون غرضه (﴿قال: بلى﴾) آمنت (﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾) اللام لام كي فالفعل منصوب بإضمار أن وهو مبني لاتصاله بنون التوكيد واللام متعلقة بمحذوف بعد لكن تقديره، ولكن سألتك كيفية الإحياء للإطمئنان ولا بدّ من تقدير حذف آخر قبل لكن ليصح معه الاستدراك والتقدير بلى آمنت وما سألت غير مؤمن ولكن سألت ليطمئن قلبي أي لأزيد بصيرة وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي والاستدلال، وقال الطيبي: سؤال الخليل ﵊ لم يكن عن شك في القدرة على الإحياء ولكن عن كيفيتها ومعرفة كيفيتها لا تشترط في الإيمان والسؤال بصيغة كيف الدالة على الحال هو كما لو علمت أن زيدًا يحكم في الناس فسألت عن تفاصيل حكمه فقلت: كيف يحكم فسؤالك لم يقع عن كونه حاكمًا ولكن عن أحوال حكمه وهو مشعر بالتصديق بالحكم ولذلك قطع النبي ﷺ ما يقع في الأوهام من نسبة الشك إليه بقوله: نحن أحق بالشك أي نحن لم نشك فإبراهيم أولى.
فإن قيل: فعلى هذا كيف قال: أولم تؤمن؟ قلنا: هذه الصيغة في الاستفهام قد تستعمل أيضًا عند الشك في القدرة كما تقول لمن يدعي أمرًا تستعجزه عنه أرني كيف تصنعه فجاء قوله: أولم تؤمن والردّ ببلى ليزول الاحتمال اللفظي في العبارة ويحصل النص الذي لا ارتياب فيه.
فإن قلت: قول إبراهيم ﵊ ليطمئن قلبي يشعر ظاهره بفقد الطمأنينة عند السؤال. قلت: معناه ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الإحياء بتصويرها مشاهدة فنزول الكيفيات المحتملة اهـ. وقيل: إن إبراهيم ﵊ إنما أراد اختيار منزلته عند ربه وعلم إجابة دعوته بسؤال ذلك من ربه تعالى ويكون قوله تعالى: (﴿أولم تؤمن﴾) أي ألم تصدق بمنزلتك مني وخلتك واصطفائك، ولا يفهم الشك من قوله: ﴿أرني كيف تحي الموتى﴾ لأن الموقن بإتقان إنسان صنعة علمًا قطعيًا لا يلزم من قوله أرني كيفية فعلها أن يكون شاكًّا في كونه يصنع ذلك إذ هو مقام آخر وإنما فهم الشك من قوله له: أولم تؤمن ففهم ذلك من مجموع الكلام، فجرّت