والحامل له على هذا التفسير كغيره ما في ظاهر هذه القصة من البشاعة وقد رواها ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله ﷺ بمكة النجم فلما بلغ: ﴿أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى﴾ [النجم: ١٩، ٢٠] ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وأن شفاعتهن لترتجى. فقال المشركون ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فنزلت هذه الآية. ورواها البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ثم ساق الحديث، وقال البزار: لا يروى متصلًا إلا بهذا الإسناد تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور قال: وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس انتهى.
والكلبي متروك لا يعتمد عليه، ورواها أيضًا ابن إسحاق في سيرته وموسى بن عقبة في مغازيه وأبو معشر في آخرين وكلها مراسيل وقد طعن فيها غير واحد من الأئمة حتى قال ابن إسحاق: وقد سئل عنها هي من وضع الزنادقة وقال البيهقي غير ثابتة نقلًا ورواتها مطعونون، وأطنب القاضي عياض في الشفاء في توهين أصلها فشفى وكفى إذ سدّ هذا الباب هو الصواب، وأربح للثواب، وإن كانت كثرة الطرق تدل على أن لها أصلًا لا سيما وقد رواها الطبري من طريقين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح. أولهما: طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه، وثانيهما: طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية وكذا طريق سعيد بن جبير السابقة وحينئذ فردّها لا يتمشى على القواعد الحديثية بل ينبغي أن يحتج بهذه الثلاثة من يحتج بالمرسل ومن لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض كما قرره شيخ الصنعة وإمامها الحافظ أبو الفضل بن حجر.
وإذا سلمنا أن لها أصلًا وجب تأويلها وأحسن ما قيل في ذلك أن الشيطان نطق بتلك الكلمات أثناء قراءة النبي ﷺ عند سكتة من السكتات محاكيًا نغمته فسمعها القريب منه فظها من قوله وأشاعها.
وفي كتابي المواهب اللدنية بالمنح المحمدية زيادات على ما ذكرته هنا، وقد قال مجاهد أنه ﵇ كان يتمنى إنزال الوحي عليه بسرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرّفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوارث والنوازل، وقيل إنه ﷺ كان يتفكّر عند نزول الوحي في تأويله إذا كان مجملًا فيلقي الشيطان في جملته ما لم يرده فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراد بأدلته وآياته، وقيل إذا تمنى أي إذا أراد فعلًا مقربًا إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فرجع إلى الله في ذلك وهو كقوله: ﴿وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله﴾ [الأعراف: ٢٠٠] لكن قال بعضهم لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر بباله