بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظًا لما قيل له فأخبر عن الماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة.
وليس المراد حصر الوحي في هاتين الحالتين بل الغالب مجيئه عليهما. وأقسام الوحي الرؤيا الصادقة ونزول إسرافيل أوّل البعثة كما ثبت في الطرق الصحاح أنه ﵊ وكّل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وكل به جبريل وكان يأتيه في صورة رجل، وفي صورة دحية، وفي صورته التي خلق عليها مرتين، وفي صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وعورض بأن ظاهره أنه إنما جاء سائلاً عن شرائع الإسلام ولم يبلغ فيه وحيًا اهـ. وفي مثل صلصلة الجرس والوحي إليه فوق السموات من فرض الصلاة وغيرها بلا واسطة، وإلقاء الملك في روعه من غير أن يراه، واجتهاده ﵇ فإنه صواب قطعًا وهو قريب من سابقه، إلاّ أن هذا مسبب عن النظر والاجتهاد، لكن يعكر عليه أن ظاهر كلام الأصوليين أن اجتهاده ﵊ والوحي قسمان ومجيء ملك الجبال مبلغًا له عن الله تعالى أنه أمره أن يطيعه. وفي تفسير ابن عادل أن جبريل نزل على النبي ﷺ أربعة وعشرين ألف مرة، وعلى آدم اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربعًا، وعلى نوح خمسين، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة، وعلى عيسى عشرًا كذا قاله والعهدة عليه.
(قالت عائشة ﵂) أي وبالإسناد السابق بحذف حرف العطف كما هو مذهب بعض النحاة وصرح به ابن مالك وهو عادة المصنف في المسند المعطوف، وبإثباته في التعليق، وحينئذ فيكون مسندًا، ويحتمل أن يكون من تعاليقه، وتكون النكتة في قول عائشة هذا اختلاف التحمل، لأنها في الأوّل، أخبرت عن مسألة الحرث، وفي الثاني عما شاهدته تأييدًا للخبر الأوّل. ونفى بعضهم أن يكون هذا من التعاليق ولم يقم عليه دليلاً. وتعقب الحذف بأن الأصل في العطف أن يكون بالأداة. وما نص عليه ابن مالك غير مشهور وخلاف ما عليه الجمهور.
ومقول عائشة (ولقد رأيته)ﷺ، والواو للقسم واللام للتأكيد أي: والله لقد أبصرته (ينزل) بفتح أوّله وكسر ثالثه، ولأبي ذر والأصيلي ينزل بالضم والفتح (عليه)ﷺ(الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم (فيفصم) بفتح المثناة التحتية وكسر الصاد، ولأبوي ذر والوقت فيفصم بضمها وكسر الصاد من أفصم الرباعيّ وهي لغة قليلة، وقال في الفتح ويروى بضم أوّله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وهي في اليونينية أيضًا أي يقلع (عنه، وإن جبينه ليتفصد) بالفاء والصاد المهملة المشدّدة أي ليسيل (عرقًا) بفتح الرأء من كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، إذ أنه أمر طارئ زائد على الطباع البشرية، وإنما كان ذلك كذلك ليبلو صبره فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوّة. وأما ما ذكر من أن يتقصد بالقاف فتصحيف لم يرو، والجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ والصدغ ما بين العين والأُذن، فللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، والمراد والله أعلم أن جبينيه معًا يتفصدان.