عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَكْتَفِي بِذِكْرِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ بِصَرِيحِ اسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ احْتِقَارًا لَهُ، حَيْثُ إِنَّهُ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَهُوَ بَشَرٌ، وَهُوَ مَعَ بَشَرِيَّتِهِ نَاقِصُ الْخَلْقِ يُنَافِي حَالُهُ جَلَالَ الرَّبِّ وَعَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ وَتَنْزِيهَهُ عَنِ النَّقْصِ، فَكَانَ أَمْرُهُ عِنْدَ الرَّبِّ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَأَصْغَرَ، وَأَدْحَرَ مِنْ أَنْ يُجْلَى عَنْ أَمْرِ دَعْوَاهُ وَيُحَذَّرَ، وَلَكِنِ انْتَصَرَ الرُّسُلُ لِجَنَابِ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَجَلَوْا لِأُمَمِهِمْ عَنْ أَمْرِهِ، وَحَذَّرُوهُمْ مَا مَعَهُ مِنَ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ، وَالْخَوَارِقِ الْمُنْقَضِيَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ، فَاكْتَفَى بِإِخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَوَاتَرَ ذَلِكَ عَنْ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ عَنْ أَنْ يَذْكُرَ أَمْرَهُ الْحَقِيرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ اللَّهِ، فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَوَكَلَ بَيَانَ أَمْرِهِ إِلَى كُلِّ نَبِيٍّ كَرِيمٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ ذُكِرَ فِرْعَوْنُ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدِ ادَّعَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ; حَيْثُ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: ٢٤] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: ٣٨] . فَالْجَوَابُ أَنَّ أَمْرَ فِرْعَوْنَ قَدِ انْقَضَى، وَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَعَاقِلٍ، وَأَمْرُ الدَّجَّالِ سَيَأْتِي، وَهُوَ كَائِنٌ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا لِلْعِبَادِ، فَتُرِكَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ احْتِقَارًا لَهُ، وَامْتِحَانًا بِهِ، إِذْ أَمْرُهُ وَكَذِبُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ، وَيُحَذَّرَ مِنْهُ، وَقَدْ يُتْرَكُ ذِكْرُ الشَّيْءِ لِوُضُوحِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَقَالَ: " يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ ". فَتَرَكَ نَصَّهُ عَلَيْهِ لِوُضُوحِ جَلَالَتِهِ، وَعَظِيمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute