للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وما كنت ثاوياً في أهل مدين)

قال تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:٤٥].

أي: لم تكن حاضراً بين قوم شعيب، ولم تكن ثاوياً مقيماً بينهم، حتى تعلم عنهم وتدرك حالهم وتعرف أخبارهم بنفسك وتتلو عليهم آياتنا، ولم تكن نبياً إذا ذاك ولا معلماً ولم يظهر شخصك بعد، ولكن ذكرك واسمك سبقاك، فذكرت في توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام، وبشرت بك الخلائق من قبل جيلاً بعد جيل، وديناً بعد دين، وقرناً بعد قرن، ولكن هؤلاء أبوا إلا التغيير والتبديل والانحراف.

قال تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص:٤٥]، أي: وما علمناك وأخبرناك من قصص شعيب ومن قبله ومن بعده لم تكن بينهم ولا حاضراً معهم، ولا تلوت عليهم كتابك، فلم تكن بعد لا أنت ولا كتابك ولا رسالتك.

قال تعالى: {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:٤٥]، أي: ولكننا بعد ذلك شرفناك ورفعنا ذكرك، وقرناه باسمنا في الشهادتين وفي الإقامة وفي مفاتيح الإسلام، فلا تتم شهادة الدخول في الإسلام إلا بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولا يتم أذان ولا إقامة إلا إذا قرن اسم محمد صلى الله عليه وسلم باسم الله خالقه ومرسله، صلى الله عليه وسلم، وتعالى ربنا وعز.

قال تعالى: {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:٤٥]، أي: ولكن سبب مجيئك بهذه الأخبار مع أنك لم تكن حاضراً هو أننا أرسلناك فعلمناك وهديناك وأنزلنا عليك القرآن خاتم الكتب السماوية والمهيمن عليها والمتحكم فيها والمبين لحقائقها والمزيف لأباطيلها، فعند ذلك تكلمت بالحق والصدق وبالوحي من الله، فكان كلامك عن الله، سواء القرآن الذي هو كلام الله باللفظ والمعنى، أو السنة التي هي بيان وتفسير وشرح للكتاب.

قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤] ومن هنا كان قول النبي عليه الصلاة والسلام شرعاً، وفعله شرعاً، وإقراره شرعاً في الغضب والرضا، في السفر والحضر.

ولذلك عندما كان يكتب عبد الله بن عمرو بن العاص كل ما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعض الجهلة من قريش: أتكتب عن رسول الله كل شيء، وهو بشر يغضب ويرضى؟! فكف، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: لم ذاك؟ فقال: قال لي فلان وفلان من قريش كذا وكذا، فقال: اكتب، فوالله لا يخرج منه إلا الحق في الغضب والرضاء.

فلا هوى له صلى الله عليه وسلم، وما هو إلا الوحي والحق والدعوة إلى الله، ولم يكن يعتبر لنفسه كياناً ولا وجوداً، بل كان يتسامح فيما يتعلق بشخصه إلا إذا انتهكت محارم الله فهو الأسد الهصور، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.