للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم)]

عندما أخذوا يتنازعون أمرهم بينهم قالوا: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢].

وهذا قد يكون قولاً لأولئك الذين تنازعوا بينهم، وقد يكون قولاً لأهل الكتاب من اليهود، الذين أشاروا على أهل مكة الذين ذهبوا إليهم بسفارة عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، أشاروا عليهم أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء، قالوا: سلوه عن قوم غابوا في الزمن الغابر، ما قصتهم؟ وأين هم؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ وسلوه عن رجل طاف مشارق الأرض ومغاربها من هو؟ وما حكايته؟ فجاء الجواب بنزول هذه السورة الكريمة، ونهى الله جل جلاله النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن يماروا فيها، فإذا قال اليهود: هم ثلاثة، أو هم أربعة، أو هم خمسة، فكل ذلك كلام منهم، فالمطلوب معرفة القصة دون تفاصيل أو تحقيق في الزمن.

قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢] أي: سيقول هؤلاء اليهود، ولعلهم من سبقهم كذلك، فالذين سبقوهم ربما يكونون قد دخلوا الكهف ورأوهم، فقالوا عنهم: ثلاثة والكلب الرابع، وقالوا: خمسة وسادسهم كلبهم رجماً بالغيب، أي: الذين قالوا: ثلاثة ورابعهم كلبهم والذين قالوا: خمسة وسادسهم كلبهم قالوا ذلك رجماً بالغيب، أي: قالوا ذلك رمياً لما غاب عنهم ولم يعلموه.

يقال: رجم بالغيب، أي: رمى الغائب عنه بغير علم ولا معرفة، كما يقال: رمية من غير رام.

فهؤلاء رجموا بالغيب، أي: قالوا كلاماً عن الغائب ولم يحضروه ولم يشاهدوه ولم يعلموا عنه شيئاً.

ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢].

قال هذا ربنا جل جلاله، ولم يقل: رجماً بالغيب، فدل على أن عددهم سبعة، وعلى أن الثامن الكلب.

قال تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:٢٢] أي: قل يا محمد في هؤلاء الذين ينازعونك في أسمائهم وأحزابهم: {رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:٢٢].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وأنا من القليل الذين استثنى الله، فكان يقول: إني أعلم، وأن الله قد أخبر بأن القليل يعلمونهم، وأنا من القليل.

وحاول ابن إسحاق أن يقول فهماً غريباً، فقال: هم ثمانية، ويفسر الآية الكريمة: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢] أنه قد قرأ من قبل: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف:١٨]، قرأها: (كالبهم باسط ذراعيه) وفسر ذلك بأنه رجل حارس، أي: الراعي الذي تبعهم، ولكن (باسط ذراعيه) ليست صفة للإنسان، والجلسة التي تكون عند الباب جلسة كلب، فهو قول شاذ لا معنى له، ولم يُرو عن صحابي، ومحمد بن إسحاق كان عالماً بالسيرة، ولم يكن عالماً بالتفسير، ولا يعارض بمثل عبد الله بن عباس فهو حبر القرآن، وقد دعا له صلى الله عليه وسلم بالفقه والتأويل.

إذاً: هم سبعة على قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وجمهور المفسرين، وسياق القرآن وظاهره يؤكد ذلك، فقد عاب الله من قالوا: إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ومن قالوا: خمسة سادسهم كلبهم فقال: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:٢٢].

أي: قالوا ذلك ورجموه وقذفوه ولم يكن لهم علم بذلك ولم يحضروه ولم يشاهدوه.

وعندما قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢] لم يقل: رجماً بالغيب، والله أعلم.

قال تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:٢٢] أي: قل يا محمد! إن جادلك أهل الكتاب، وقالوا لك: هؤلاء عددهم كذا أو العدد كذا أو العدد كذا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:٢٢].

وقد أخبر الله تعالى أن الذي يعلم هذا العدد هم قليل، إذاً: هناك من يعلم عين الحقيقة، والله أعلم.

فقد قال ابن عباس: وأنا من هذا القليل الذي استثنى الله.

قال تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٢٢]، أي: عندما يجادلك أهل الكتاب، ومن يدعي المعرفة بهؤلاء لا تمار ولا تجادل إلا جدالاً ظاهراً، قل لهم: هم سبعة، والثامن الكلب، فإن عارضوا فلا تمارهم ولا تحرص على أن يعلموا ولا تجادلهم كثيراً، ولا تكن لدوداً في الخصومة، ولا تكن مماراتك لهم المماراة التي يريد صاحبها أن يعلمهم الحقيقة، فهم لا يريدون حقيقة، وقد زعموا هذه علامة على رسالتك ونبوءتك، أدركوها وعلموها ومع ذلك كذبوه ولم يؤمنوا، لا صناديد قريش آمنوا ولا علماء اليهود، فإذا أخذوا يجادلون، ويقولون: ليس هذا هو العدد، ولم يكن وقت كذا، ولم يكن كذا، فلا تجادلهم، فقوله تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:٢٢] أي: لا تجادل فيهم إلا جدالاً سطحياً ظاهراً.

وقال تعالى: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٢٢].

وإياك أن تسألهم بعد أن نزل عليك الوحي، فلا تقل لهم: ما الذي عندكم، إذ ليس عندهم بعد هذا إلا الضلال والأكاذيب والأساطير وما ليس عليه من الله دليل ولا برهان، وهذا النهي للنبي عليه الصلاة والسلام، فكيف بنا نحن الذين نماري ونجادل؟ أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو معصوم على أي حال.